الأوهام بعد نصف عام من الحرب

00:46 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

لم تكن حرباً خاطفة كما أرادتها روسيا؛ بل تجاوزت نصف عام، وربما ستمضي، لتكون شكلاً من أشكال حروب الاستنزاف الطويلة، ولا تبدو أنها حالة استثناء عن حروب كثيرة طالتها التقديرات الخاطئة للطرف المبادر؛ فإذ بها تغير مساراتها، وتعيد موسكو تدريجياً تقييم الممكن من الأهداف، بدلاً من الأهداف الرئيسية التي وضعت لهذه الحرب.

الحرب الروسية الأوكرانية التي كسرت وهم انتهاء عصر الحروب البينية في أوروبا، قامت منذ لحظة وقوعها بعملية تغيير جوهرية في التفكير السياسي الأوروبي، وحول أوروبا نفسها، فقد كان وقوع مثل هكذا حرب ضرباً من الخيال لدى معظم، إذا لم نقل، جميع السياسيين المفكرين والخبراء الاستراتيجيين، في أوروبا، خصوصاً إذا كان أحد طرفيها هو دولة نووية مثل روسيا، وهي دولة رئيسية في الحربين العالميتين اللتين عرفهما العالم في القرن العشرين.

كانت القيادة الروسية، تعوّل على حرب سريعة، تصل فيها قواتها خلال أيام إلى العاصمة كييف، ومن ثم تقوم بتغيير قواعد اللعبة السياسية في أوكرانيا، وأيضاً في أوروبا، وتعيد بعد ذلك صياغة النظام الدولي، مستعيدة إلى حد كبير دور الاتحاد السوفييتي، خلال الحرب الباردة (1945-1991)، لكن هذه السياسة، بدأت تظهر مع مرور الوقت بأنها سياسة رغبوية، أكثر من كونها سياسة واقعية، فزمن الحرب الباردة هو زمن آخر، بشروط وعناوين سياسية وأيديولوجية واقتصادية مختلفة كلياً، عن شروط وعناوين اللحظة الراهنة، ففي سياق تقييم تبدّل الشروط، ينبغي عدم إهمال العصب الأيديولوجي للقطب السوفييتي، والذي كان يمتد، بما له من تحالفات، على مساحات واسعة من العالم، خصوصاً في الشرق الأوروبي والآسيوي.

إذاً، فإن الحرب أسقطت وهم استعادة عصبية أيديولوجية مناهضة للغرب عموماً، فالحامل الأساسي للتناقض الأيديولوجي الذي كان قائماً بين الغرب والاتحاد السوفييتي، أي التناقض بين رأسمالية الأول واشتراكية الثاني، لم يعد موجوداً، فروسيا نفسها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ماكينة النظام الرأسمالي المعولم، كما بدا واضحاً، أن العامل القومي/ السلافي لا يمكن استخدامه كرافعة أيديولوجية، خارج حدود الاتحاد الروسي؛ بل إنه يثير حفيظة الشعوب الأوروبية بغربها وشرقها، لأنه يستعيد معه أفكار الاستعلاء القومي، التي كانت عامل استقطاب رئيسي في الحرب العالمية الثانية.

في أوروبا، أيضاً سقط وهم البحث عن الاستقلالية، فدول الاتحاد الأوروبي، التي هي جزء من حلف الأطلسي «الناتو»، تعتمد في أمنها القومي بشكل رئيسي على الولايات المتحدة، وقد أظهرت الحرب أنه من دون استمرار التحالف العسكري الاستراتيجي مع واشنطن، فإن ما يسمى الأمن القومي الأوروبي سيكون على الدوام معرضاً لمخاطر وتهديدات، وأن كلفة الاستمرار في هذا التحالف، هي أقل بكثير من تكاليف الانفكاك التدريجي، الذي خاض الأوروبيون في نقاشه، بعد الأزمة السياسية الأوروبية الأمريكية، خلال ولاية الرئيس الأسبق دونالد ترامب.

الوهم الآخر الذي يبدو أنه في طريقه للاضمحلال في أوروبا هو أن الرخاء الاقتصادي والمعيشي سيستمر إلى زمن بعيد، فقد تحقّق هذا الرخاء بفضل عوامل عديدة، من بينها استقرار سوق الطاقة الأحفورية، لكن الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة، خلال الأشهر القليلة الماضية، بدأ يلقي بظلاله على مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية على حد سواء، وهو ما انعكس بحالة التضخم الكبيرة في الأسواق، مع تراجع في قيمة اليورو، والقدرة الشرائية للمواطنين، ولجوء الحكومات إلى صناديقها السيادية للحد من الآثار الاجتماعية المترتبة على هذه الأوضاع.

وعلى الرغم من سقوط أوهام رئيسية كبيرة في أوروبا، وما سيليها من تداعيات لسنوات مقبلة، إلا أن الحرب بين الصين وتايوان، تبدو أنها تصبح أكثر فأكثر خياراً محتملاً، من دون أن يستفيد الطرفان من دروس الحرب الروسية الأوكرانية، وأولها إمكانية فشل سيناريو الحرب الخاطفة، حتى لو بدا للوهلة الأولى أن الصين متفوقة من حيث العدد والعتاد، فحلفاء تايوان؛ بل لنقل خصوم الصين المتحالفين مع واشنطن (بريطانيا، وكوريا الجنوبية، واليابان، وأستراليا)، سيستخدمون تايوان لاستنزاف الصين، مع كل ما سيرافق مثل هكذا حرب من موجة عداء عالمية للصين، ستؤثر في مكانتها السياسية والاقتصادية.

الحقيقة الوحيدة التي تبدو صامدة وسط هذه الأوهام، أن الاندفاع انجذاباً أو تنابذاً - بشكل كلي وراديكالي - بدلالة سياسات واشنطن، هو أكبر وهم يمكن لدولة ما أن ترتكبه، فالأجندة الأمريكية الاستراتيجية، بوصفها إمبراطورية، فيها بند واحد فقط، وهو قيادة النظام الدولي، من دون منافس جدي لها، أما ما تبقى فهو يقع في خانة التكتيك.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/49s89hvs

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"