عادي
لوحة واقعية تجعلنا نتجول في عمق القرية

الحنين إلى براءة الريف في «كل شيء من الماضي»

15:14 مساء
قراءة 5 دقائق
الشارقة: عثمان حسن
ولد الفنان الروسي فاسيلي ماكسيموف (1844-1911) لعائلة من الفلاحين في قرية لوبينو، التابعة لسانت بطرسبرغ، أصبح يتيماً في سن 6 سنوات، وتوجه إلى العمل مبكراً، حيث التحق بمتجر للرسم الأيقوني، وهنا كانت بداية تعلمه وتعلقه بهذا المجال الذي أبدع فيه لوحات غاية في البساطة والرشاقة الفنية، حيث تنتمي معظم أعماله للفن الواقعي، الذي يصور حياة الريف، وما فيه من هواجس وذكريات ومناسبات اجتماعية ودرامية متنوعة.
في عام 1863 التحق فاسيلي ماكسيموف بالأكاديمية الإمبراطورية للفنون، وفي عام 1864 أصبح عضواً في مجموعة الفنانين الجوالين، المجموعة التي لعب دوراً مؤثر فيها الفنان والناقد إيفان كرامسكوي (1837 – 1887) المولود في سانت بطرسبرغ، والتي استمرت بين عامي 1860 و 1880.
أكمل فاسيلي جميع دورات الأكاديمية في ثلاث سنوات، في عام 1865، رفض شأنه شأن مجموعة الـ 14 التي كان يقودها كرامسكوي، المشاركة في مسابقات الميدالية الذهبية الكبرى من قبل الأكاديمية، معللاً ذلك بأنه لا يحتاج إلى الدراسة في الخارج (كان ذلك جزءاً من شروط الجائزة) وأنه بدلاً من ذلك، سيدرس القرية الروسية، بعد تخرجه في الأكاديمية، وانتقل إلى قرية شوبينو، في مقاطعة تفير حيث رسم حياة الفلاحين، وكسب المال كمدرس للرسم للأميرين جولنشيف، وكوتوزوف.
وفي هذه الفترة، صور ماكسيموف عشرات الأعمال التي ترصد حياة القرية، ومن بينها (من هناك، حكايات الجدة، الفتاة، الزوج المريض، قسم العائلة، المشهد على القبر، زوجة الفنان، وكل شيء في الماضي).
  • تجسيد
تعتبر لوحة «كل شيء في الماضي» خير تجسيد لحياة الريف الروسي، بما امتازت به من واقعية مفرطة، رصدت حتى التفاصيل الصغيرة في بيئة القرية، مما جعلها وغيرها من الأعمال بمثابة سيرة فنية يمكن الرجوع إليها في دراسة تاريخ الفن الروسي في القرن التاسع عشر.
تصور اللوحة سيدتين متقدمتين في العمر، وإحدى هاتين السيدتين، تظهر جالسة على عتبة منزلها، وتحيك بالإبرة جورباً أبيض، ومن المتوقع أنه لأحد أحفادها، يغطي رأس هذه السيدة وشاح أسود، تتخلله نقاط بيضاء، ويبدو الوشاح في أسفله مؤطراً بشريط من لون رغوة البحر.
القميص الذي ترتديه السيدة بلون رمادي، يظهر كما لو أنه مصنوع من قماش باهت أبيض اللون.. ذات السيدة ترتدي مئزراً أو «مريولاً» موشى بخطوط، يختلط فيها اللونان الأسود والبني الفاتح. أما التنورة الطويلة التي ترتديها السيدة، فتمتد من ساقيها نحو الأرض، وتظهر بلون أسود موشى بأزهار وردية متكررة.
خلف السيدة، يظهر «السماور» المخصص لإعداد الشاي، ويستند إلى درجة السلم الخشبي، وأسفل منه على درجة السلم الأولى، يظهر كوب شاي كبير مخطط باللونين الأبيض والأزرق.
على مسافة قريبة من هذه السيدة، تظهر سيدة أخرى متقدمة في السن، جالسة على كرسي، وتفصل بين السيدتين طاولة عليها مجموعة من الأواني المزركشة، أما هذه السيدة فتغطي رأسها باروكة من شعر مستعار، وهي تسند ظهرها إلى مخدة ناعمة كبيرة، كما يظهر المشهد وسادة أخرى تحت ساقيها، وقريباً من هذه السيدة، يرقد على الأرض كلب نائم في هيئة المخلص والمتفاني، السيدة نفسها تبدو في نصف قيلولة، وكأنها تضع وجهها في مواجهة الشمس، في امتداد المشهد نرى قصراً يظهر بوضوح أنه خاص بهذه السيدة، تحت ذراعها تماماً ثمة عصا، يعتمد عليها كبار السن عند المشي.
يلحظ المشاهد أن ثمة فارقاً كبيراً بين السيدتين، حيث تظهر الثانية بملابس أنيقة أرجوانية، فهي ترتدي فستاناً ملوناً بالأصفر، يمتد حتى يتقوس حول الرقبة، تتزين باروكة الشعر المستعار بدبوس على شكل فراشة، وتظهر السيدة بفراء رمادي، وشال أسود، ونعل شرقي داكن اللون.
خلف هذه السيدة التي ترتدي وشاحاً أسود اللون، يظهر منزل خشبي عادي به نافذتان مفتوحتان على مصراعيهما، مع أغصان خضراء حول النافذتين، ومشهد أخضر يحيط المنزل الذي تستند إلى درابزين شرفته بطانية ملونة غالية الثمن، وتتوسط السيدتين طاولة مليئة بالأطباق باهظة الثمن، تستند إلى مفرش طاولة هندي جميل بلون قرميدي.
  • تأمل
من الواضح أن هذه اللوحة، تندرج من حيث مضمونها في سياق كثير من أعمال الفنان التي تظهر اهتمامه بالبيئة الريفية، خاصة أيام روسيا القيصرية، وهي الفترة التي شهدت تحرير الأقنان في القرن التاسع عشر، وبداية نهاية عهد احتكار الطبقة الأرستقراطية للسلطة، ما أدى إلى زيادة حجم الطبقة الوسطى وتأثيرها في المجتمع، وقد تبدو السيدة المسنة، إحدى وريثات هذا المجتمع، حيث فرض على بعض الفلاحين دفع ضريبة خاصة إلى الحكومة، تعويضاً عن الأملاك التي فقدها البعض، وقد صاحب ذلك، خسارة الفلاحين لأراضيهم فأصابهم الفقر والعوز، والصورة يمكن تأملها -على الأقل- من جهة السيدة المسنة التي ترتدي ملابس أنيقة، والتي تظهر بملامح فيها الكثير من الأسى والتذكر.
تحكي كل واحدة من لوحات فاسيلي جانباً من قصص الريف الروسي بأتراحه وأفراحه، بعض هذه اللوحات خصصها لتسرد جانباً من حكايات الجدات ومن بينها واحدة بذات الاسم، وهناك قصص درامية كثيرة عبر عنها فاسيلي من خلال الرسم، وترصد على سبيل المثال مناسبات الأفراح كالزواج، كما في «وصول الساحر إلى حفل زفاف الفلاحين» و«الفتاة» وهذه الأعمال تظهر صدق وعفوية الفنان في سرد مثل هذه القصص والحكايات من خلال الرسم.
وربما يؤكد على سعيه هذا، أنه هو بذاته ابن بيئة فلاحية بسيطة، فقد والده وهو بعمر ست سنوات، وفي مرحلة لاحقة من حياته، ها هو يرسم «الزوج المريض» في 1881، وهي موجودة الآن في معرض تريتياكوف، وربما انعكست وفاة والده، في هذه اللوحة.
  • جوهر
تأثر ماكسيموف شأنه شأن مجموعة الفنانين الجوالين بالأفكار الثورية التي أكدت على واجب الفنان تجاه وطنه، كما أكدت على مبادئ الواقعية، والجوهر الأخلاقي، وتحديد هوية الفن، وفي ذروة حماسه الفني، كانت له مشاركات كثيرة في المعارض، التي تختص بأعمال كتاب ومثقفين كبار مثل: (ليف تولستوي، إيفان شيشكين، بافيل ميخائيلوفيتش تريتياكوف، ميخائيل سالتيكوفو سيرجي بوتكين) وقد امتازت أعماله بالبساطة التعبيرية وأكد من خلال رسوماته على أهمية التكوين، وإبراز العناصر النفسية العميقة للشخصية.
فازت أعمال كثيرة لماكسيموف بجوائز فنية كبيرة بينها لوحة «الطفل المريض» (1864) وحصلت على الميدالية الذهبية للأكاديمية الإمبراطورية للفنون.
وفي السنوات العشرين الأخيرة من حياته، تراجع اهتمام الناس باللوحات الواقعية، لكن ماكسيموف استمر برسم مشاهد من حياة الفلاحين، هذه اللوحات التي لم يعد يهتم بها المشترون ومقتنو اللوحات، وهذا تسبب في بؤسه، فعاش لسنوات مليئة بالفقر والأمراض.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc5f4r9u

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"