الكوليرا تضرب الخليج بقوة عام 1899

ممرض بريطاني مصدر تفاصيل ما جرى في عمان
02:18 صباحا
قراءة 9 دقائق

في فبراير/شباط ،1866 عقد في القسطنطينية مؤتمر دولي اقترحته الحكومة الفرنسية من أجل الدفاع عن أوروبا ضد وباء الكوليرا، واشترك في المداولات ممثلون لتركيا وفارس وبريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية وجرى للمرة الأولى البحث عن أصل وباء الكوليرا وتوالده، وتوصل المؤتمر في نهاية المطاف إلى عدد من الاستنتاجات منها أن الهند التي يستوطنها وباء الكوليرا بصورة دائمة، هي المصدر الرئيس للكوليرا الآسيوية . والاتصال بين البلدان، خصوصاً البحري عن طريق السفن هو الوسيلة الرئيسة لتوالدها، وتشكل الصحارى الكبيرة أكثر الحواجز فاعلية في وجه تقدم الداء(1) . ولذلك كانت بداية دخول الكوليرا لمنطقة الخليج كما ذكرنا في الحلقة السابقة بواسطة السفن الشراعية التجارية العاملة بين الهند وبعض موانئ الخليج، ومنها انتقلت الكوليرا إلى بقية المناطق، بينما شكلت صحراء الجزيرة العربية مانعاً، إلى حد ما، لحدوث كوارث لهذا الوباء في كثير من مدن وقرى وتجمعات البدو البعيدة عن السواحل .

أوصى مؤتمر القسطنطينية ببذل كل الجهود للقضاء على الداء في مصدره بالهند، ووجوب إنشاء نظام حجر صحي علمي في البحر والبر لمنع تقدمه باتجاه الغرب لا سيما في البلدان الأكثر التصاقاً بالهند، ورأى المؤتمر أن قلة الكثافة السكانية في بعض المناطق، ووجود الصحارى وغيرها من العوائق الطبيعية، من شأنهما أن يسهما في الحد من انتشار الوباء، أما الحجر الصحي الصارم ضد الآتين من الأماكن المصابة بالعدوى، فينبغي أن ينحصر بفترة 10 أيام بعد دخول المحجر الصحي، وأن أيام الرحلة في حالة السفن والتي لا يزيد حدها الأقصى على تسعة أيام يمكن اعتبارها أيام حجر صحي، ولكن المؤتمر أغفل الاتصالات المباشرة بين الخليج والهند، واكتفى بأن أوصى بمراقبة المتجهين من الخليج إلى العراق مراقبة دقيقة، وخاصة في منطقتي الفاو والبصرة، وهما ميناءان عراقيان يطلان على الخليج، على أن يخضع المشكوك فيهم للحجر الصحي الملائم . وأضيفت توصية أخرى بوجوب تزويد كل السفن التي تبحر في الخليج بشهادة صحية، ولكن لم يمض وقت طويل على مؤتمر القسطنطينية، حتى تأثرت أوروبا بكارثة جديدة من الكوليرا، فقد دخل الوباء إلى أوروبا عام 1969 واستمر حتى عام 1874 عن طريق فارس وروسيا، ولا يمكن التحديد، إن كانت فارس أصيبت بالعدوى من الهند عبر أفغانستان، أم من العراق والخليج، أم تلاقى في فارس مجريان منفصلان للعدوى . وخلال عام ،1871 أدى انتشار الوباء في منطقة النجف في العراق متجهاً عبر الجزيرة العربية إلى سواحل البحر الأحمر، إلى إبطال مقولة إن وباء الكوليرا لا يمكنه أن يجتاز فعلياً الصحارى الشاسعة، فقد وصل الوباء إلى مدينة حائل السعودية في يونيو/حزيران 1871 والمدينة المنورة في سبتمبر/أيلول، وإلى مكة المكرمة في أكتوبر من العام نفسه، ويبدو أن هذا الوباء بدأ من منطقة بوشهر في الخليج حيث ظهر فيها في فبراير/شباط ،1871 وانتشر من هناك إلى العراق ونقل إلى الكويت والبحرين إلى أساطيل صيد اللؤلؤ في البحر، ويبدو أن الكويت كانت النقطة التي انطلق منها ليخترق منطقة حائل(2) .

استمر وباء الكوليرا يجتاح مدن الخليج والجزيرة العربية خلال فترات منقطعة من القرن التاشعر عشر، ولحسن الحظ استطاع أحد الممرضين البريطانيين تسجيل مشاهداته لتفاصيل ما قام به الوباء في سلطنة عمان ومدنها، حيث أن معظم ما قرأناه عن تلك الأوبئة لا يعدو أن يكون تسجيلاً لأعداد الضحايا، أو المناطق التي تأثرت من دون اعطاء تفاصيل دقيقة لما حدث . وكما رأينا، فإن الوباء اجتاح أجزاء كبيرة من المنطقة العربية، سواء الخاضعة للأتراك أو الواقعة تحت الهيمنة البريطانية، وما يهمنا هنا هو الحدث نفسه، وما فعله الوباء بالسكان من مآس، وهذه الصورة بلا شك تكررت في بقية المدن العربية التي اجتاحها الوباء، ولم يهتم أحد بوصف ما حدث . دعونا الآن ننتقل إلى عام 1899 لنقرأ تفاصيل ما كتبه جايكار عام 1955 في تقريره الطويل حول وباء الكوليرا في عمان، أي بعد عام واحد أو أقل من الهجمة الكبيرة للوباء يقول منذ أن ضرب وباء الكوليرا مسقط عام ،1865 أصبحت من دون شك خالية تماماً من المرض، إلا أن نظام الصرف الصحي بالغ السوء، وبعض الأسباب الأخرى التي تؤدي إلى ظهور المرض من جديد لاتزال موجودة، والحالة الأولى التي جعلتني أشتبه في احتمال ظهور المرض في مطرح كانت لطفل يدعى عبدالرحمن بن محمد وعمره نحو 12 سنة، وكان يقطن في حي المازمية، وهو أحد أحياء مطرح، وقاموا بإحالته إلي شخصياً بسبب موته المفاجيء يوم 19 سبتمبر/أيلول 1899 وبإجراء تحقيق في سبب وفاته تبينت حقيقة معاناته من القيء والإسهال لمدة يومين سابقين على الوفاة، وتدهور حالته الصحية وقتها، ووجد غائباً عن الوعي، وبعدها أصيب بحالة تشنج تامة ظلت مستمرة حتى وفاته، وأعقب ذلك بعد مرور بضعة أيام توافد أخبار تفيد بوفاة فتاة تدعى مانية وتبلغ من العمر 12 عاماً وتعيش في منطقة جاء وفي مطرح جراء أعراض الكوليرا، وبعد التحقيق، تبين أن أخاها الأصغر الذي يبلغ من العمر تسعة أعوام ويعيش معها في المنزل نفسه عانى أعراضاً مشابهة لمدة يومين قبل وفاتها، ولكنه تعافى، تلقيت المزيد من البلاغات بحدوث إصابات بالمرض خلال الأيام القليلة التي تلت في ضاحية جابرو، وعلى هذا يمكن القول إن المرض منشأه منطقة جابرو في مطرح والتي اقتصر عليها في البداية، خاصة وأننا لم نجد صعوبة في تتبع الرابطة بين الحالة الأولى للإصابة بالمرض، وهي حالة الطفل عبدالرحمن، وبين ما حدث في ضاحية جابرو، حيث تبين أنه قام بزيارة لتلك الناحية، وشرب من أحد مصادر المياه الملوثة الموجودة للسقاية العامة هناك، وحسب رأيي، فإنه لما توفي الطفل عبدالرحمن، كان الوباء بدأ، واشتدت حدته رغم أنني لم أكن أعلم ذلك وقتها، وفي يوم 27 سبتمبر/أيلول وردت تقارير عن حالة إصابة أخرى بقرية تدعى مطيرة قريبة للغاية من مطرح، ولكنها في اتجاه معاكس من منطقة جابرو، وبينما أخذت حدة المرض تتزايد في جابرو، ظهرت أيضاً في منطقة البلوش في مطرح، ومعظم البيوت في هذه المنطقة تحصل على حاجتها من المياه من بئر واحدة يطلق عليها الأهالي الرزافيفي جابرو، ولأن أهل جابرو كانوا يحصلون على إمداداتهم المائية من المكان نفسه، اتضح أن هناك رابطة وثيقة للغاية بين هاتين الضاحيتين، والحقيقة أن تاريخ أولى حالات الإصابة في منطقة البلوش تدعم بقوة الرأي القائل إن سبب العدوى هو شرب المياه من البئر الملوثة . ومع حلول نهاية هذا الشهر، انتقل المرض إلى ضاحية الطويان وغيرها من الأحيان في مطرح، ورغم أنها في البداية كانت حالات متفرقة، إلا أنني تلقيت بلاغات من أهل المناطق التي داهمها المرض، حيث سرعان ما أصبح الوباء عاماً، وغطى مناطق أكبر، واتسع مداه بحيث إنه وبحلول الرابع من أكتوبر/تشرين الأول ،1899 كان الوباء طال أماكن خارجية، وبحلول منتصف أكتوبر لم يعد أي مكان في المدينة والضواحي المجاورة والقرى بمأمن من المرض الذي تفشى فيها جميعاً . ويمكن القول إن الكوليرا انتقلت إلى مسقط من مطرح لكون المكانين في اتصال مستمر ببعضهما بعضاً، ورغم أنه وبحلول نهاية سبتمبر/أيلول سرت شائعات قوية عن وجود حالات منعزلة يشتبه في إصابتها بالكوليرا في مسقط، لم نستطع الحصول على معلومات محددة تتعلق بتلك الشائعات والطريقة التي تقدم بها الوباء، ولكن الرأي السائد هو أن المرض جاء إلى مسقط من مطرح، والدليل على ذلك أنه بينما وصل الوباء إلى ذروته في مطرح وهو ما تؤيده أعداد الوفيات حسب البيانات الواردة حتى 12 أكتوبر ،1899 فلم ترد معلومات عن إصابة بالمرض في مسقط إلا عند الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني لما بدأ المرض ينحسر في مطرح . وتواترت الأنباء لأول مرة عن أول حالة إصابة بالمرض في السادس من أكتوبر وذلك لامرأة اسمها نصرة تسكن في ضاحية الطويان، ولكننا أيضاً يجب ألا نعتبر أن نصرة مصدر للعدوى، لأنه من المؤكد حدوث حالات أخرى عديدة قبلها من دون أن تتوافر معلومات عنها، إضافة لذلك، ففي اليوم التالي مباشرة، كانت هناك ثلاث حالات، اثنتان منها في تجمعين سكنيين في الضاحية نفسها، أما الحالة الثالثة، فكانت في ضاحية مختلفة تماماً، وتبع هاتين الحالتين الأوليين في 19 أكتوبر/تشرين الأول، حالة في المدينة نفسها بمنطقة سكنية اسمها الولجات، إضافة إلى حالات أخرى في حصن الجلالي، بعدها بدأ المرض بالانتشار بسرعة، حيث أخذ شكل وباء عام، وامتد إلى قرية سدب في 17 أكتوبر/تشرين الأول، وبلغ المرض ذروته نحو بداية شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وبعدها بدأ بالانحسار، ثم اختفى قرب نهاية شهر يناير/كانون الثاني عام 1900 . وبالحكم على نسبة الوفيات المسجلة، يمكن القول إنها وصلت للذروة في مطرح في نحو خمسة أسابيع، وفي مسقط ما بين أربعة إلى خمسة أسابيع من بدايته، مع ذلك اختلفت فترة الانحسار بصورة كبيرة في هذين المكانين، ففي مسقط بدأ الانحسار خلال نحو أسبوع اعتباراً من فترة الذورة ثم اختفى أخيراً، أما في مطرح فكان الوضع مختلفاً لكونها على اتصال مباشر مع المنطقة الداخلية من الساحل حيث ساد المرض، الأمر الذي كان يعني أن هذه المدينة كانت عرضة لمصادر جديدة من العدوى، وهو ما جعل الوباء يتأخر في الانحسار والوصول إلى مرحلته النهائية، ولكنه عاود الظهور مرة أخرى في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني واستمر طوال ديسمبر/كانون الأول الأمر الذي جعل الانحسار النهائي للمرض يتأخر حتى منتصف يناير/كانون الثاني، وهو ما جعل الفترة الكلية للوباء في مطرح لا تقل عن خمسة أشهر، واتصف المرض وخاصة في بدايته بحدوث حالات ظهر فيها بضراوة بالغة من دون أي إنذار مسبق، ورغم أن الإسهال الذي يدق جرس الإنذار بقدوم المرض لم يكن موجوداً في معظم الحالات، إلا أن المرحلة التالية لم تكن سريعة في تفشيها، ولا حادة للغاية بطبيعتها، ولكن مع توغل المرض، كانت هناك حالات استدعت الإخلاء والذي تبعه انهيار تام، وشكل سمة واضحة للمرض، وفي أغلبية الحالات التي كان الانهيار أحد أعراضها الظاهرة، كانت فترة المرض قصيرة ولا تزيد على بضع ساعات، أما في حالات الانهيار الطويلة، وهو أمر غير شائع، فقد استمرت لأكثر من ذلك، ورصدت حالتين من هذه النوعية، وهي مثيرة للاهتمام لكونها انتهت بالشفاء التام، أولى هاتين الحالتين كانت لطفل إفريقي جرى إدخاله للمستشفى بسبب نوعية حادة من الالتهاب الرئوي جراء الإصابة بإنفلونزا، وتعافى من الأعراض الأكثر حدة لها المرض، ولم يكن يقوى على الجلوس في الفراش، وعندها هاجمته الكوليرا فجأة، ولم تكن حالة الانهيار التي تلت الإصابة بالكوليرا سريعة، ولكنها كانت كاملة في البداية، ثم استجابت للعلاج تدريجياً، بحيث دامت نحو ثلاثة أيام، أما الحالة الأخرى فكانت لامرأة شابة حامل في منطقة مطرح، حيث ظهرت عليها أعراض المرض على شكل إسهال يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني ودام قرابة 18 ساعة، وبعد أن ظهرت أعراض الكوليرا بوضوح يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني، حدث الانهيار بسرعة، وفي اليوم الثالث للمرض، وبينما لايزال في مرحلة الانهيار للضحية والتي لم تصل بعد إلى درجة خطرة، حدثت الولادة لجنين كامل، وبقيت المريضة في مرحلة الانهيار حتى يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني ثم شفيت تماماً في النهاية، ومن الأعراض المميزة لهذا المرض، آلام معوية حادة وتشنجات وإحساس بالحرقان في المعدة، أما أمراض الحمى فتدوم لفترة قصيرة، بل قد تغيب كلياً في بعض الحالات، والحالات التي قمت بفحصها لم تكن درجة حرارتها عالية بشكل عام، إلا أنه في حالتين كانتا مصابتين بالتهاب السحايا وانتهتا بالوفاة، ظلت هناك حرارة عالية لفترة طويلة، بينما في إحدى الحالات والتي انتهت بالوفاة هي الأخرى، حدث عقب الإخلاء الذي حدث فورياً، حمى حادة للغاية، وبلغت درجة الحرارة قبل الوفاة ببضع ساعات 106 درجات فهرينهيت، كما كان الاحتباس البولي من الأعراض الشائعة، إلا أنه أمكن التغلب عليه في معظم الحالات التي قمت بفحصها، عموماً وبشكل إجمالي، يمكن اعتبار الوباء متوسط الشدة لأنه من ناحية نسبة تفشي المرض مقارنة بالعدد الإجمالي لسكان مسقط ومطرح، بلغت تلك النسبة 5،3% وهو ما يكفي لتصنيفه على أنه ذو طبيعة خطرة للغاية، ومن ناحية أخرى، فهو، أي الوباء، لم يحصل على هذه الدرجة من الخطورة بسبب معدل الوفيات المرتفع والذي كان الخاصية الواضحة له خلال توغله ناحية وادي سمايل، ففي منطقة سرور وحدها، وهي أول بقعة داخلية تردد عليها، أزهق أرواح 470 شخصاً من جملة السكان البالغين 1000 نسمة، أما في سمايل، فقد حصد أرواح 1000 شخص من جملة تعداد 5 آلاف نسمة بتلك الانحاء، وهكذا يمكن القول إن الهجمات التي جرت في مسقط ومطرح جراء الوباء نتج عنها 1400 ضحية، ومن بين هؤلاء 449 في مسقط وحدها، أي بنسبة 4،5% من السكان .

هوامش

(1) لوريمر، السجل التاريخي للخليج وعمان وأواسط الجزيرة العربية، الجزء الأول، تاريخ، المجلد العاشر، ص 56

(2) المرجع السابق، ص 57 - 58

(3) A .S .G . Jayakar, Maskat Ist April 1900,

in maskat an Matrah with few General Report on the Rexent Epidemic of cholera

Remarks On the Epidemic in Oman

the Persian Gulf Administration Reports

for the year 1899 - 1900 Vol .1, P .22-33

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"