السلوك الثقافي والصندوق الانتخابي

05:36 صباحا
قراءة 4 دقائق

الديمقراطية سلوك وممارسة وليست شعارات طنانة أو كلمات رنانة، إذ إنها تتوقف بالدرجة الأولى على المناخ السياسي والبيئة الثقافية اللذين يؤثران مباشرة في مكونات العقل الجمعي داخل البلد الواحد، ورغم أن الديمقراطية لها قواعد أساسية وشروط متفق عليها تعتمد على سيادة القانون وترتبط بمبدأ الأمة مصدر السلطات، وعلى نحو يكرس تداول السلطة ودوران النخبة، كما يجب أن تمضي الديمقراطية مع عملية التنمية الناجحة على جبهة عريضة تربط بين الاقتصاد والسياسة . إذا كان ذلك هو المفهوم العصري للديمقراطية، فإن الانتخابات هي أداتها وآلية تحقيقها، ونحن نعترف هنا بأن صندوق الانتخابات لا يفرز بالضرورة الأفضل ولكنه يقدم الأحق وفقاً لإرادة الناخبين، وتعبيراً عن رغبتهم في من يأتي إلى السلطة أو ينوب عن الشعب . ونحن نقرر هنا بوضوح أن الآليات وحدها لا تكفي إذ يمكن أن يكون لدينا ضوابط ومعايير إلا أنها لا تحقق الهدف بالضرورة، فالمعيار الثقافي أساسي ومهم في إنجاح العملية الديمقراطية، فالأمية مثلاً تنتقص من أهمية التحول الديمقراطي، كما أن الفقر يمكن أن يكون أحد المعوقات لنزاهة الانتخابات، وإن كان النموذج الهندي الضخم الذي يمثل أكبر الديمقراطيات في العالم المعاصر يمكن أن يقدم لنا تفسيراً مختلفاً، فالفقر في الهند ظاهرة والأمية مسيطرة، ومع ذلك فإن الهنود حققوا إنجازاً مشهوداً على صعيد الديمقراطية والمشاركة السياسية، وتمكنوا من أن يقدموا تجربة رائعة تفتقدها شعوب أخرى في عالمنا المعاصر، ولذلك فإننا نريد أن نستخلص الملاحظات الآتية:

أولاً: إن الإسلام يقدم طرحاً خاصاً لنظرية الشورى وهو الأمر الذي أدى إلى توقف المسلمين طويلاً أمام مفهوم الديمقراطية الغربية . ولقد كان أستاذي الذي أشرف على أطروحة الدكتوراه فاتيكيوتس بجامعة لندن يجادلني دائماً في تأثير الإسلام في قضية الديمقراطية، ويقول إن لديكم نظرية الشورى ولا تستطيعون تطبيقها، وفي ذات الوقت لا تتحمسون للديمقراطية الغربية لأسباب تراثية وثقافية، فلا أنتم استطعتم أن تأخذوا بما تملكون ولا نجحتم في أن تستوردوا ما تميز به غيركم، وكان يستفزني دائماً بأن يقارن بين الهند وباكستان حيث كان يرى أن الهند أصبحت أكبر ديمقراطية في العالم بينما تعاني باكستان من الديكتاتورية العسكرية والانقلابات المتكررة، مؤكداً أن الإسلام في باكستان هو العقبة أمام الديمقراطية رغم أن كلاً من الهند وباكستان خرجتا من أصل واحد ثقافياً وتاريخياً .

ثانياً: إن النظام الحزبي في مصر ضعيف تاريخياً لأسباب قد يطول شرحها ربما يكون في مقدمتها قوة الدولة المركزية والإدارة الحكومية، فضلاً عن حرص المواطن المصري على أن يكون تحت مظلة السلطة قدر ما يستطيع، ولا نكاد نتذكر حزباً شعبياً في تاريخ مصر باستثناء حزب الوفد في الفترة الليبرالية (19 1952)، ولعل ضعف النظام الحزبي هو الذي يتحمل جزءاً من مسؤولية تراجع المشاركة ونقص الكوادر وانعدام التربية السياسية بما يمهد للعمل السياسي الذي يصل إلى الدولة الديمقراطية الحديثة، وعندما نتحدث عن إمكانية الأخذ بالنظام البرلماني في مصر، فإننا نصطدم بضعف الأحزاب السياسية وقصور اندماجها في الشارع المصري .

ثالثاً: إن الذين يعرفون التركيبة السكانية لمصر يدركون أن المشاركة في الانتخابات والاهتمام بالصناديق، تتركز أكثر في قرى الريف ومراكز المحافظات والأحياء الشعبية، فالفقراء يصوتون في الانتخابات أكثر من غيرهم، لذلك تعكس نتائج الانتخابات البرلمانية سطوة المال وتأثير الدين بل وآثار ما نسميه بالبلطجة السياسية وسط مجتمع أغلب سكانه يعيشون تحت حزام الفقر، فكيف نطالبهم بسلوك ديمقراطي ونحن ندرك أن الأمعاء الجائعة لا يفكر أصحابها في الحرية والدستور والمشاركة السياسية، لأن لهؤلاء البشر أولويات تتعلق بحياتهم اليومية أكثر من ذلك الترف الفكري الذي لا يقدرون عليه .

رابعاً: إن تجربة الانتخابات الجزائرية في مطلع تسعينات القرن الماضي، ثم الانتخابات الفلسطينية التي فازت فيها حركة حماس، هما مؤشران أساسيان يعكسان أهمية احترام نتائج الصندوق مهما كانت، فلقد دخلت الجزائر حرباً أهلية راح ضحيتها مئات الألوف نتيجة إجهاض ما أسفر عنه الصندوق والتنكر لنتائجه، لذلك فإنني أخاطب المصريين جميعاً أبناء وطني داعياً إلى ضرورة احترام النتائج مادامت الانتخابات نزيهة ولم تعلق بها شوائب تنال منها، إذ إن مستقبل هذا الوطن محكوم بنتائج هذه الانتخابات إلى حدٍ كبير، لأنها تجربة غير مسبوقة في تاريخنا الوطني كله وسوف تكون مؤشراً واضحاً إلى المستقبل، كما أنها سوف تمثل رسالة إلى الخارج الذي ينظر إليها على أنها واحدة من أهم نتائج ثورة 25 يناير 2011 .

خامساً: إن انقسام القوى السياسية في مصر قد أثر بالتأكيد في مسار العملية الانتخابية، إذ إن المعسكرين الديني والليبرالي إذا جاز التعبير قد انقسم كل منهما على نفسه بما أدى إلى متغيرات جديدة هي التي أفرزت النتيجة النهائية لتلك الانتخابات وما ارتبط بها ونجم عنها من معارك جانبية وخلافات حتى داخل الطائفة الواحدة، كما أن الرفض المسبق من بعض مرشحي الرئاسة للنتيجة إن لم تكن في مصلحتهم، هو عدوان على فلسفة الديمقراطية وأمر يثير الدهشة خصوصا أننا بصدد مخاض جديد لحياة سياسية مختلفة ربما لم تشهدها مصر الحديثة من قبل .

تلك قراءة فاحصة لملف معقد يقوم على فكرة محددة وهي أن الظروف المحيطة بصندوق الانتخاب أهم من الصندوق ذاته، فالعملية الانتخابية ليست عملية صماء ولكنها تقوم على جو سياسي ومناخ ديمقراطي هو الذي يسمح بالحديث عن الدولة العصرية في بلادنا بكل ما تحمله من دلالات إيجابية لوطن عانى طويلا حكم الفرد وشيوع الفساد وضعف البنى الدستورية والحزبية إلى جانب انعدام صدقية البرلمانات السابقة وغياب التمثيل الحقيقي للقوى الموجودة فعلياً في الشارع، لذلك حان الوقت الذي نؤكد فيه أن مصر تتجه نحو استكمال البنية الأساسية للتحول الديمقراطي الحقيقي الذي يعدّ سلوكاً بشرياً قبل أن يكون معركة سياسية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"