أصحاب الغواية والهمجية

03:45 صباحا
قراءة 5 دقائق
يستنسخ جهلة العصر من المتطرفين تجربة العصور الوسطى؛ وكلمة العصور الوسطى تثير في أذهان الناس معاني مرذولة، ومن هذه المعاني أن العقل الإنساني كان مستعبداً إلا في داخل النطاق الذي حدده الإيمان الساذج الخالي من التعقل . والإنسان المفطور بحكم بدائيته لا يميز بين الحق والباطل . وكانت الحروب الدينية مبررة في تلك العصور، حيث كانت العاطفة الدينية غالبة على أية عاطفة أخرى . أما اليوم، فإن العالم بات مختلفاً والصراعات بين الدول والشعوب لم تعد بسبب الدين، بل بسبب تناقض وتضارب المصالح القومية بين الدول، ففي الحربين العالميتين الأولى والثانية، تقاتلت أمم أوروبا المسيحية حتى أفنت بعضها بعضاً . لكن ورغم أن التيار العالمي يعاكس المد الديني وأحلام المتطرفين، إلا أن هؤلاء يأبون إلا أن يأخذوا الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية التي تعيش في بلاد المسلمين، في نزهة إلى القرون الوسطى مع ما كانت تحمل تلك القرون من المآسي والأحزان، فبعد سيطرة تنظيم ما يسمى "الدولة الإسلامية في العراق والشام" على الموصل في العراق، أقدم المتطرفون على هدم كل الأضرحة والمقامات الدينية كما هدموا الكنائس الموجودة والتي تعود لقرون طويلة سالفة، كما أنذروا الطوائف المسيحية من الكلدان والآشور والسريان، إما بالدخول في الإسلام، أو دفع الجزية، أو الجلاء عن أرض الموصل . ويبلغ عدد سكان الموصل نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون شخص، يشكّل المسيحيون نصف مليون منهم، وقد عاش هؤلاء وتفاعلوا مع المسلمين منذ مئات السنين، باندماجٍ اجتماعي وطني حيث كانوا عراقيين لا يفرقهم شيء تحت خيمة الوطن . وهكذا هجر أكثر من مئة ألف مسيحي من هناك، وتم طرد الأكراد رغم أن أغلبيتهم من السنة بحجة أن الأكراد يحاربون داعش في سوريا، كما تم طرد الشيعة والشبك، ودخل "داعش" إلى قضاء سنجار وسكانه من طائفة الأزيديين، فجمع من قدر على جمعه من الشباب والفتيات، وطلب من الشبان دخول الإسلام فرفضوا فضربت أعناقهم بالسيوف وكانوا نحو 500 شاب، أما الفتيات فتم سوقهن سبايا وتم افتتاح سوق في مدينة الموصل لبيع السبايا من الأزيديات والمسيحيات لمن يدفع أكثر .
ولم يتوقف عداء المتطرفين القساة على المسيحيين، بل ليطال المقامات الدينية؛ فقد قاموا بهدم قبر وجامع النبي يونس في الموصل وتسويته بالأرض، كما تم هدم مقام النبي شيث ومقام النبي دانيال، وهذه مقامات تعود لآلاف السنين، وكم مر على هذه الأرض من بشر مختلفين لكنهم كلهم حفظوا كرامة هؤلاء الأنبياء . فلم يمسوهم بسوء، أما هؤلاء المتطرفون من أتباع داعش، فقد داسوا على كل الأقداس وذلك تحت مسمى العودة إلى نهج السلف الصالح، فهل قام السلف الصالح بتهجير الناس من أوطانهم وهل قاموا بهدم قبور الأنبياء والصالحين؟
إن ما أقدم عليه هؤلاء لا يمت إلى الإسلام بصلة وإجرام مفضوح يندى له جبين الإنسانية، وسيؤدي إلى كارثة كبرى تحل بالمنطقة برمتها، فلا يجوز الإيهام بأن المتطرفين هم ثوار، فهؤلاء ليسوا ثواراً، بل هم مجموعة من قاطعي الرؤوس وهادمي الحضارة . ويبدو أن العالم إلى الآن لم يدرك خطورة ما يفعله هذا التنظيم الذي أعاد الحياة في القرون الوسطى إلى الوجود في عصر الحضارة والتنوير، وإن ما يفعله تنظيم داعش، فعله من قبل تنظيم "الخمير الحمر" في كمبوديا، بعد تولي الزعيم بول بوت إعلان قيام، كمبوتشيا الديمقراطية، وأراد بول بوت تطبيق الشيوعية في كمبوديا، فأعطى أوامره، على الفور، لإخلاء المدن وإرسال السكان في مسيرات إجبارية إلى مشاريع عمل في المناطق الريفية بدعوى أنهم بورجوازيون ينبغي الانتقام منهم، ووقف الخمير الحمر فوق رؤوس أولئك، فكل من كان يرفع ظهره ويتوقف عن العمل، كان يؤخذ ويوضع كيس في رأسه ويربط في عنقه ويترك ليموت على البطيء، وعلى مدى أربع سنوات من حكم بول بوت فقد مات من 1 إلى 3 ملايين كمبودي، توفوا بسبب الإعدامات، والإجهاد في العمل والمجاعة والمرض . وتعالت صرخات المظلومين في كمبوديا وأصمت آذان العالم المتحضر لكن أحداً لم يستجب باستثناء الحكومة الشيوعية في فيتنام التي سارعت إلى المساعدة، فأرسلت جيشها لاجتياح كمبوديا والقضاء على حكم الخمير الحمر، وعند ذلك وقفت الولايات المتحدة تدعم هؤلاء سياسياً وعسكرياً مما منع تلك الحملة من تحقيق أهدافها كلها، لكن، رغم ذلك، فقد اضطر الخمير الحمر إلى التنازل عن الحكم وأقيمت جمهورية كمبوتشيا الشعبية، بقيادة جبهة الإنقاذ . وبذلك فقد تم إيقاف المذبحة، لكن المجرمين وعلى رأسهم بول بوت تركوا ليكملوا حياتهم وليموتوا بسلام من دون أي عقاب . كل ذلك بسبب تضارب المصالح بين الدول الكبرى .
إن النخبة المثقفة في العالم العربي والإسلامي مطالبة بالتصدي لذلك الفكر الهدّام وفضحه والتنبيه من خطورته على الشباب العربي والمسلم، حيث يتم غسل أدمغة الأطفال وزرع أفكار ظلامية تأخذ هؤلاء في مهاوي لا قرار لها، حيث إنهم يتحولون إلى مشاريع انتحاريين فيقتلون الأبرياء من دون ذنب . ومن هنا لا بد من مراقبة التعليم الديني للصغار ومن الواجب تنقية المناهج الدراسية من كل ما يمكن فهمه بطرق توصل الشباب إلى التهلكة، فيجب التركيز على الأخلاق وقيم العلم والبحث وإبراز الرواد والعلماء في هذه الأمة عبر تاريخها الذين كتبوا وألّفوا في العلم والمقولات الفلسفية التي تحفز الذهن وتفتح مدارك العقل . ومن دون شك، لن يكون لها مستقبل للمتطرفين، فهم سينتهون، لأن هذا العصر ليس عصرهم، ولا يستطيعون أن يستمروا في الحياة وهم يملكون تلك الأفكار القديمة، فإما أن يجددوا فكرهم أو أن يأخذهم الطوفان كما أخذ غيرهم من قبل ولكنهم لن ينتهوا حتى يتركوا ندوباً كبيرة في جسد الأمة وحتى يوغروا القلوب بالبغضاء والتشاحن وحتى يخرّبوا العمران ويهلكوا الحرث والنسل .
إن مصيبة التطرف تحل في العالم العربي، في الوقت الذي تتابع فيه الشعوب الأخرى في العالم مشاريع النهوض والبناء لأن تلك الشعوب أدركت رشدها واستقرت، فاليابان مثلاً، أعطت المثال الحي والواقعي على قدرة الانسان على صنع المعجزات، فالنقلة النوعية التي أحدثها الشعب الياباني في التاريخ الإنساني المعاصر تعد مثلًا أعلى لشعوب العالم، فأصبح اسم اليابان مطبوعًا في أذهاننا؛ لما يقدمه ذلك البلد من اختراعات وصناعات للعالم، ذلك البلد الذي لم تثنه الحروب عن التقدم والازدهار، وعكف على بناء نفسه، وأدرك قادته أن لا سيادة لهم إلا بالعلم واليد العاملة . هكذا هي الشعوب الحية التي عرفت طريقها، ذلك الطريق المختلف عن طريق المهالك الذي يتبعه المتطرفون .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"