عادي

بينالي الشارقة.. موعد مع التاريخ

23:20 مساء
قراءة 7 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

أحدث بينالي الشارقة منذ انطلاقته في عام 1993، تراكماً إبداعياً وجمالياً وفكرياً، ما أهّله ليصبح من أكبر المنصات الجمالية ليس على مستوى المنطقة العربية فقط، بل والعالم، لطبيعته الخاصة لكونه محفلاً تدار فيه قضايا الفنون، وتصنع فيه المواقف الفكرية والإبداعية، وقد أكدت الدورات المتتالية على النضج الكبير في عمل بينالي الشارقة والتطور والإصرار على الاستمرارية، فالملاحظ أن هذه المنصة المشعة والمشرقة هي من الملتقيات والفعاليات القليلة المشتغلة بالفنون التي استمرت وتطورت.

كان نصيب العديد من المؤسسات والمنصات المهتمة بقضية ورسالة الفنون التوقف والتعثر نسبة لكونها تأثرت بما يجري حولها من متغيرات وأحداث، غير أن بينالي الشارقة كان على قدر التحدي فاستمرت مسيرته وأزداد ألقاً وتوهجاً بفضل التفاعل الكبير الذي يجده من قبل فناني العالم الذين يقصدون في كل نسخة جديدة، فصار يحتل مكانة عالمية مميزة، وهو أمر يحسب لمؤسسة الشارقة للفنون، كمؤسسة عريقة وذات خيرات وباع طويل في رعاية مثل هذه الفعاليات ذات الثقل الكبير، الأمر الذي يجعلها قادرة على مواجهة التحديات والصعاب في سبيل أن تصل رسالتها إلى الناس في كل مكان.

بالفعل فقد توسعت أعمال بينالي الشارقة بصورة كبيرة منذ أولى دوراته، حيث هذا الحدث الفني المهم، يطرح في كل نسخة جديدة المزيد من النقاش حول قضايا الفنون والأفكار التي تخص البشرية في عالم تسود فيه في الوقت الراهن ثقافة تريد لنفسها أن تكون الوحيدة رغم تعدد الثقافات وخصوصيتها، والواقع أن النقاشات التي يطرحها البينالي والتي يشارك فيها مبدعون ومفكرون من الغرب والشرق وكل أنحاء العالم، تقدم مقترحات جمالية تسعى إلى تبديد القبح الذي يكاد يطغى في عصرنا الحالي، بسبب الانغلاق والتطرف، هنا وهناك، فكان البينالي منصة حقيقية متمردة ضد التطرف، لتنتج النقاشات أفكاراً في غاية الروعة في مضامينها، كترياق للقبح وللغة التي أنتجها، من أجل صناعة مشهد جديد في كل العالم، لصناعة تاريخ يعاد فيه إنتاج الإنسان، معرفياً وجمالياً.

مكون أساسي

ضرب البينالي موعداً مع الانفتاح على العالم برسائل المحبة والخير والحب، فقد أراد أن يعكس جمال الداخل باستصحاب المكون المحلي الجمالي للشارقة والإمارات ككل، وبالتالي الخليج وثقافته، وبدرجة أشمل، العالم العربي وخصوصياته الفنية والثقافية، وربما ذلك ما عنته الشيخة حور القاسمي رئيس مؤسسة الشارقة للفنون، عندما قالت: «إن المكون الأساسي للبينالي، تمتد جذوره عميقاً في الشارقة، التي أصبحت هويتها الأساسية هي الهوية الثقافية المتنورة، وأن البينالي لا يمكن أن يرتقي بنفسه إن لم يكن على دراية تامة بطبيعة الشارقة من جهة، وبطبيعة الفن المتجددة من جهة أخرى»، وربما ذلك ما جعل البينالي يغوص عميقاً في البيئة الجمالية المحلية الإماراتية والعربية، فصارت الشارقة ملتقى كبيراً لكل الفنانين العرب، ليصبح التعبير الجمالي هنا حالة عربية، تريد أن تتمدد لتشمل كل العالم، فكان أن شدت جموع الفنانين رحالها في نسخ متعاقبة إلى شارقة الخير والجمال، وقد رأينا كيف أن هذه الدورة قد حققت هذا الوعد الجمالي، عندما انداحت أعمال البينالي لتشمل أربعة من العواصم العالمية، في مهرجانات جمالية مستمرة، تتناول الهمّ الجمالي، ومستقبل الإنسان، كأن البينالي من خلال هذه اللوحة الجمالية المنفتحة على العالم، يكتب «مانفيستو»، أو بيان الجمال تشير كلماته الاستهلالية إلى أن هناك شيء جديد يجول في كل أنحاء العالم، إنه بينالي الشارقة بأفكاره وممارسته الجمالية التي تبحث عن أفق والبشرية، وتبشر بعالم جديد تسود فيه قيم الخير والجمال والتسامح.

لقد تمدد البينالي في رقعته الجغرافية، وصار يعقد في العديد من العواصم، خاصة في أفريقيا، وأصبح له فكرة ورؤية فكرية وجمالية واضحة، وشهرة واسعة، بفضل الاهتمام والدعم المباشر المعنوي والمادي لحكومة الشارقة، تحت رعاية وتوجيه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، صاحب الإنتاجات الفكرية، وعبر مؤسسة الشارقة للفنون، الأمر الذي زاد من رصيد الشارقة كعاصمة عالمية للثقافة، وملتقى بارزاً وهاماً في خريطة الفنون والجمال في العالم، منطلقة من الخصوصية الثقافية في التراث الجمالي العربي، والبيئة المحلية، نحو آفاق ثقافية وإنسانية، وذلك أمر في غاية الأهمية، ويؤكد على الدوام أن التأثير في الإنسانية يكون مبتدأه الأساسي هو الداخل، ليصبح البينالي بهذه المفاهيم والرؤية الفريدة التي يحملها عابراً للتظاهرات الفنية الموسمية، ويحمل في داخله مشروعاً فنياً كبيراً واثقاً من نفسه، وبالتالي فقد اجتذبت الشارقة إلى جانب المبدعين والفنانين العرب، نخبة من فناني العالم، في مشهد جمالي كوني بديع.

رسالة

ولعل تمدد البينالي نحو جغرافية مختلفة، كان غرضه الأساسي تحقيق فكرته الكونية التي تهدف إلى ضرورة تعزيز القيم والأخلاق الفاضلة التي تنتمي إلى جوهر الإنسان والذي يكون بدونها مغترباً عن المعاني السامية، لذلك فإن أفكار البينالي تقف إلى جانب ضرورة هزيمة التسليع والأفكار الاستهلاكية، وكل ما يسلب المرء انتماءه الفطري والآدمي، وهو ما تحقق في البينالي عبر اللقاء وعبر المشاريع والبرامج، والإنتاج المشترك للأفكار التي تهدف لغايات بث روح الجمال والمحبة والانعتاق.

وتحقيق تلك الرسالة يكون عبر التقارب وضرورة لقاء الإنسان بأخيه الإنسان، من كل بقاع الأرض، بغض النظر عن الاختلاف العرقي والثقافي واللغوي، ليكون «التعارف» هو الأصل، وهو المهمة الأساسية التي ينبغي أن يقوم بها المشتغلون بالثقافة والجمال، وقضايا الفنون والإبداع في كل العالم، وفي الشارقة التقى هؤلاء المبدعون، ليتعارفوا، ويقدموا فكراً مدهشاً للإنسانية، ضد التفرقة وضد المفاهيم الإيديولوجية الهشة، وضد التعالي والأفكار الشاذة التي تقبح وجه التاريخ، وتجعل من الإنسان أسيراً لمفاهيم مقيدة تحول دونه وعملية التحرر التي تحدث التقارب بين البشر وتجمعهم على أفكار متقاربة يسود فيها الاحترام المتبادل بدلاً عن روح التعالي والاستبداد، والتسامح بديلاً للأحقاد والضغائن، والسلام بديلاً للحروب التي تكاد تقضي على البشرية، وما مشهد حركة اللجوء وقوارب الموت التي تنقل البشر من بلدانهم التي تشتعل فيها الخلافات ويسود فيها الفساد، إلا دليلاً على اختلال كبير بفعل القبح الذي لن يجد ترياقاً له إلا عبر سيادة روح جديدة ورؤى تنتصر للجمال وذلك تماماً ما يفعله بينالي الشارقة.

قضايا

ظلت كل دورات البينالي تعمل على إثارة الأسئلة عبر كل القضايا التي تطرحها، وظل التاريخ يشكل حضوراً خاصاً لكون شديد الأثر والتأثير في الحاضر، لقد غاص البينالي في قضايا الاستعمار، وما بعد الاستعمار، من أجل الغوص العميق في مسألة حضور التاريخ على مشهد العالم والإنسانية ومجتمعات تلك الحقب التاريخية المهمة التي شكلت شخصية العالم «الاستعمار وما بعده»، وأفرزت العديد من المفاهيم، مثل الدولة الوطنية التبعية والعرق والجندر وغير ذلك، وهي القضايا التي ظلت تشبع بحثاً، وتثار على جوانبها الأسئلة التي تسمح بتقارب الأفكار والغوص في المواضيع المطروحة، وفي هذه الدورة الحالية ال15، يطرح موضوع التاريخ من جديد، ولكن بصورة مختلفة ومبتكرة من خلال عنوان «التاريخ حاضراً»، تجسيداً لرؤية الباحث والناقد النيجيري الراحل أوكوي إينوزور، وما أحدثته أفكاره وتصوّراته من أثر هائل على الفن المعاصر، والتي أفضت إلى صياغة مشروع فكري طموح رسَمَ معالم تطور الكثير من المؤسسات والبيناليهات حول العالم، حيث تستدعي القيّمة الشيخة حور القاسمي مفهوم «التاريخ» وفقاً لما طرحه إينوزور، وتعيد صياغته من جديد، في مسعى منها إلى وضع الماضي في سياق اللحظة المعاصرة، من خلال تبنّي منهجية عملية تعلي من البديهي، جنباً إلى جنب مع المعرفي.

والواقع أن إينوزور، الذي رحل عام 2020، هو واحد من الشخصيات الفردية والاستثنائية في مشهد حركة الفنون المعاصرة، وهو يمتلك مفهوما جماليا وفنيا خاصا يستند فيه على التاريخ ونفوذه وقوة تأثيره، وقد وصف من قبل الحركات الفنية العالمية بالكثير من الأوصاف التي تشير إلى أهمية أفكاره التي طرحها، وقد ذكرت صحيفة «نيو يورك تايمز» في حديثها عنه عقب وفاته بأنه المنسق الذي أعاد تشكيل الفن حول العالم، وهو كذلك الرجل والفنان الأفريقي الذي عقد مواجهة مع تقاليد الفن الأوروبي، فهو يحمل رؤى مختلفة في كيفية إعادة قراءة تاريخ الفن من جديد، متجاوزاً النظرة التقليدية لمركزيته الغربية.

قدم إينوزور الكثير من الأبحاث المهمة، حول الفن المعاصر، والحداثة وما بعد الاستعمار، وغير ذلك من القضايا المهمة التي يتم تناولها بعيداً عن هيمنة الأفكار الغربية، كما قام هذا الرجل بتنظيم الكثير من المعارض الجماعية والفعاليات الفنية، وقد عمل كقيم على بينالي فينيسيا «البندقية» في عام 2015، كأول كقيم أفريقي لتلك المنصة منذ تأسيسها، وهو كذلك أول قيم فني من خارج القارة الأوربية يترأس معرض «ديكومنتا» في دورته الحادية عشرة التي أقيمت في ألمانيا عام 2002، وشغل الرجل منصب نائب مدير معهد سان فرانسيسكو للفنون، واستاذاً في قسم تاريخ الفن في جامعة نيويورك، وعمل أستاذاً زائراً في عدد من الجامعات الأمريكية والأوروبية. ومن بين معارضه الهامة التي نظمها أخيراً معرض «ما بعد الحرب... الفن بين المحيط الهادئ والأطلسي» في مدينة ميونخ الألمانية، لقد حمل إينوزور أحلام وآمال الأفارقة بعالم جديد وسعيد، وكان يعمل من أجل مستقبل مشرق للفنون الإفريقية بعد أن ظل يتم التعامل معها كإبداعات هامشية على مستوى الفنون العالمية، فكان أن عمل بشدة ضد الهيمنة والمركزية الغربية في الفنون والفكر.

مفاهيم جديدة

يعود البينالي هذا العام، من أجل الاستمرار في فعل الاكتشاف في المناطق المعتمة من التاريخ، ليقدم الإضاءات الكاشفة ويقوم ببناء المفاهيم الجديدة التي من شأنها أن تصنع واقعاً جديداً ومختلفاً لمصلحة الإنسان في كل مكان، ولأجل التعارف بين الشعوب والثقافات المختلفة برافعة الفنون هذا الميدان الذي ظل يقاوم على الدوام من أجل خير البشرية، وسيكون الجمهور من المهتمين بالحراك الفني في أفقيه، المحلي والعالمي، على موعد مع إبداعات المشاركين من الفنانين الذي سيقدمون أعمالاً تنسجم مع ثيمات البينالي في هذه الدورة وتنتمي إلى نضال المبدعون من أجل الجمال.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3xd5s5nh

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"