أزمة وجود أوروبية

04:07 صباحا
قراءة دقيقتين
مفتاح شعيب

يُحسب لأوروبا أنها أم العالم الحديث وصانعة إنجازاته، وأنها رسمت خرائطه وضبطت قيمه السياسية والفكرية. هذه حقيقة لا يجهلها أحد، ولا يوجد شعب على الأرض لم يتأثر جزئياً أو كلياً بالثقافة الأوروبية؛ لأنها ببساطة كانت نبض العصر وقائدة التقدم الإنساني على مدى قرون. ولكن هذا القارة التي وصفها وزير أمريكي أسبق بأنها «عجوز»، تعاني شيخوخة، حقيقية ورمزية، وتعيش أزمة وجود عميقة جداً.
من مظاهر الأزمة، تشتت النخب السياسية الأوروبية وضياعها بين مقاربات متنافسة ومتناقضة، فكل تيار يسعى من موقعه كي يكون المؤثر والمستقطب للرأي العام. ولكن بالمحصلة هناك خيبة أمل ظلت تتراكم على مدى عقود. لقد ذهبت أوروبا، بضغط عوامل كثيرة، إلى بناء كيان اتحادي استطاع أن يتمدد ويضم 28 دولة، لكن في لحظة ما توقف الاندفاع إلى الوحدة ونشأت حركة مضادة تطالب بتفكيك هذا الاتحاد والتخلص من نتائجه، باعتباره تجربة فاشلة.
وكانت أولى الصدمات من لندن عندما صوتت أغلبية البريطانيين عام 2016 لصالح الانسحاب، وجاءت الصدمة مزدوجة؛ إذ لم تكن المملكة المتحدة بدورها مهيأة لخروج مفاجئ من الاتحاد الأوروبي. وحتى قادتها السياسيون حاولوا مقاومة ضغوطات «بريكست» ولم يفلحوا.
وفي الواقع هناك تيار أقوى من الجميع بدأ يتغلغل في الحياة الأوروبية ويخلخل بعض القيم التي سار على نهجها الأسلاف، ونسجت صورة أوروبا الحالية. هذه الصورة يبدو أنها لم تعد مقنعة للأجيال الجديدة التي تريد التغيير ولو بالعودة إلى ثقافة الصراع التي سادت في القرون الوسطى.
انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت على مدار أربعة أيام، بقطع النظر عن نتائجها، لم تكن محطة ديمقراطية كالسابق؛ بل مناسبة عبر فيه الأوروبيون عن القلق من المستقبل. وإذا كانت المعركة دائرة بين القوميين والشعبويين من جهة، والتيارات الوسطية من جهة أخرى، فإن صناديق الاقتراع كانت حوصلة لأصوات القلق. فمن انتخب لليمين المتطرف كان يصوت وفي ذهنه الحد من شعبية الوسطيين، والعكس صحيح.
وحين تشتد الخصومة تضيع المصالح وتضعف الإرادة. وكذلك الوضع الأوروبي، فالقوى السياسية الناشطة في مختلف الدول تمتلك مفاتيح المستقبل أو تستطيع إقناع شعوبها بوجاهة الحفاظ على الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه، وهذه المعضلة بدأت تتعاظم بتأثير قوى من خارج القارة مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين.
أوروبا الموحدة عملاق اقتصادي وقوة علمية جبارة، ولكن دورها هامشي على مستوى السياسة الدولية، وهذا ما جعل نسبة كبيرة من الأوروبيين تريد إعادة النظر في مشروع الاتحاد من أساسه؛ إذ لا جدوى من البقاء، طالما كانت الحصيلة هزيلة، وهناك توقعات بأن ينهار المشروع القاري إذا فشل القادة الحاليون والمقبلون في الحفاظ عليه، وربما إعادة بنائه على أسس أكثر واقعية، وإذا لم يفعلوا فسينتهي كل شيء تمهيداً لفلسفة أوروبية جديدة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"