«الآن فهمت»

05:17 صباحا
قراءة 6 دقائق
د.يوسف الحسن

}} احتفلت جامعة الدول العربية في مارس/‏‏‏ آذار الماضي، وفي قمة شرم الشيخ، بالعيد السبعين لتأسيسها، ومن حسن الطالع، أن عقدت رئاسة القمة ومجلس الجامعة، لمصر الجديدة.

}} عرفت مصر والجامعة العربية، في عقدي الستينات والسبعينات، تفاعلت مع روح وثقافة مصر، وهي في حالة شموخ ووهج تنويري، ونَفَس قومي ملهم، وتعاملت معها، وهي في حالة انكسار وتراجع، وانفتاح «سداح مداح»، وغادرتها في عام 1978، وأنا حزين، وهي تبتعد (إلى حين) عن حضن أمتها، وعن عظمتها الإبداعية في الفن والأدب، والتعليم والعمارة وقيم الشارع والدور الريادي.
}} قدت مسيرات وتظاهرات طلابية، في عقد الستينات، في ميدان التحرير، أمام جامعة الدول العربية احتجاجاً على تخاذلها في نصرة قضايا الحرية، ومسائل التضامن العربي، ودخلت لأول مرة، مكاتب الجامعة العربية، وقابلت (برفقة وفد يمثل الطلبة العرب في الجامعات المصرية) سيد نوفل الأمين العام المساعد للشؤون السياسية، وقدمنا له بيان احتجاج على عدم معاقبة ليبيا وتونس، الدولتين العربيتين الوحيدتين اللتين لم تقاطعا ألمانيا الغربية، بسبب تقديمها سلاحاً متطوراً إلى «إسرائيل».
}} وفي هذا اللقاء العاصف، تعلمت الدرس الأول في ميثاق جامعة الدول العربية، باعتبار الجامعة مجرد «سكرتارية إدارية وفنية»، عليها تنفيذ إرادات عربية مختلفة، وليس لها أن تعارض أو حتى تناقش.
}} في عقد السبعينات، شاركت في معظم اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية، ولجانها ومؤسساتها، بما فيها مؤتمرات القمة العربية، وحوارات الجامعة العربية مع الأوروبيين والأفارقة، وتعلمت دروساً في «السياسات العربية» في اعتدالها وتفاعلاتها التنافسية والصراعية والتعاونية، وفي قصورها في مواجهة الأخطار، واستثمار الفرص، وفي فشل أعضاء الجامعة في تنفيذ معظم القرارات التي تتخذ في اجتماعات الجامعة العربية، حتى تلك التي صدرت بإجماع الآراء.
}} شهدت المساجلات الحادة بين عرفات وعبد الحليم خدام، وبين الأخير وسعدون حمادي حول الأوضاع اللبنانية في بداية الحرب اللبنانية، وكيف كانت المساجلات تخرج عن المألوف في المناقشات، إلى الشتائم والاتهامات «بالعمالة»، ورأيت، بإعجاب، ما يتمتع به وزراء الخارجية الأمير سعود الفيصل وأحمد خليفة السويدي وعبد العزيز بوتفليقة، وإسماعيل فهمي والشيخ صباح الأحمد الجابر، من حلم وحكمة ولغة دبلوماسية راقية وأدب جم ومهارات في الإقناع والتسويات والحوار.
}} تعرفت في هذه الاجتماعات، إلى تضاريس السياسة العربية، وألعابها وعقدها، وما وراء الكلمات و«الكواليس»، ورأيت في محمود رياض الأمين العام للجامعة، قامة قومية شامخة يحرص على أن تتجاوز وظيفته «المهمة الإدارية والفنية»، لا يقبل قيداً أو مجاملة لدولة المقر، وهو منها.
}} وأذكر، كيف غضب وانسحب من اجتماع للمندوبين الدائمين، احتجاجاً ورفضاً لما قاله مندوب جمهورية اليمن الجنوبي، عن طبيعة وظيفة الأمين العام، التي لا تزيد على كونها «سكرتارية» على حدّ قوله.
}} تحضرني الآن، حالة الأمة عند ولادة الجامعة العربية، في عام 1945، سبع دول عربية، تشاورت فيما بينها في الإسكندرية، حول سبل مواجهة تحديات الاستقلال وإمكانات التعاون، والتخلص من الهيمنة الأجنبية. سبع دول بعضها ناقص الاستقلال أو تحت الاحتلال الأجنبي، وبعضها خارج لتوه من مرحلة كفاح وطني من أجل الاستقلال، وظهرت منذ بداية المشاورات محاور وانقسامات، طالب البعض بدولة سوريا الكبرى، وطالب آخرون، بدولة موحدة تمثل «الهلال الخصيب»، وآخرون طالبوا «بتحالف عربي».
}} ومن الجدير بالذكر أن نوري السعيد رئيس وزراء العراق في ذلك الوقت، هو أول من اقترح عقد مؤتمر عربي للوحدة، وأرسل وفوداً لشرح موقفه. تلاه مصطفى النحاس، رئيس وزراء مصر، الذي وجه دعوات إلى الحكومات العربية الست القائمة في ذلك الوقت، لعقد المشاورات الثنائية والتي تواصلت في النصف الأول من عام 1944، بدءاً من العراق والأردن وسوريا والسعودية، وانتهت المشاورات مع وفد اليمن. أما لبنان فاكتفى بإصدار بيان مكتوب قدمه رياض الصلح رئيس مجلس الوزراء، يبدي فيه رغبة لبنان في التعاون مع الدول العربية، «شريطة اعترافها بكيانه المستقل وحدوده». وتشير الوثائق الرسمية العربية، إلى أن العراق، كان الأكثر حماساً لفكرة تكوين «اتحاد عربي»، وأيده شرق الأردن، أما سوريا التي كان يرأس مجلس وزرائها سعد الله الجابري، فكانت تميل إلى مشاريع سوريا الكبرى والهلال الخصيب، وهي المشاريع التي استبعدت بسبب اختلاف التطور السياسي «للأقطار الشامية».
}} ووافق الوفد السعودي الذي كان برئاسة يوسف ياسين نائب وزير خارجية المملكة العربية السعودية، في مشاوراته مع مصطفى النحاس، على تعاون عربي يشمل الميادين الاقتصادية والثقافية فقط، وأيده في هذا الموقف وفد اليمن برئاسة علي المؤيد، «على أن تحتفظ كل دولة بكامل سيادتها وحقوقها، ويكون هذا التعاون قائماً على أساس التساوي بين جميع الدول».
}} وانتهت هذه المشاورات الثنائية، قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، وكان الرأي العام العربي يضغط في اتجاه تحقيق الوحدة.

وفي هذا المناخ انعقدت لجنة تحضيرية بالإسكندرية، بحضور مندوبين يمثلون الدول السبع، إضافة إلى وفد يمثل عرب فلسطين، واتفق المشاركون على عدم الأخذ بفكرة «الحكومة المركزية»، وفكرة «الاتحاد العربي»، وتأليف «جامعة» للدول العربية، وتكون قرارات مجلس هذه الجامعة ملزمة لمن يقبلها.

ووقع رؤساء خمسة وفود على بيان اللجنة التحضيرية، الذي عرف باسم (بروتوكول الإسكندرية) في أكتوبر 1944، وملحقيه الخاصين بفلسطين ولبنان، في حين تحفّظ لبنان على الفقرة القائلة: «لا يجوز في أية حال اتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية، أو أية دولة أخرى»، وبعد نحو ثلاثة أشهر، وقّعت السعودية واليمن على البروتوكول.

}} وتولت لجنة فرعية إعداد مشروع ميثاق للجامعة العربية، على ضوء بروتوكول الإسكندرية، برئاسة محمود فهمي النقراشي باشا رئيس وزراء مصر، ولعب عبد الحميد بدوي وزير خارجية مصر، دوراً كبيراً في صياغة الميثاق، باعتباره أحد كبار فقهاء القانون الدولي، الذي انتخب لاحقاً قاضياً بمحكمة العدل الدولية. وصادقت الدول السبع في عام 1945، على الميثاق، واعتبر يوم ٢٢ مارس/‏‏‏ آذار يوم ميلاد الجامعة.

}} وقد انضمت إلى الجامعة جميع الدول العربية، بعد حصولها على استقلالها، بدءاً من ليبيا (1953) والسودان (1956) والمغرب وتونس (1958)، والكويت (1961) والجزائر (1962) واليمن الجنوبي (1967) والبحرين وقطر وعمان والإمارات (1971) وموريتانيا (1973) والصومال (1974) وجيبوتي (1977) وجزر القمر (1993)، أما فلسطين فقد تمتعت بعضوية كاملة منذ (1976).

}} استعرضت صوراً للمشاركين في تأسيس الجامعة، وهم يرتدون في أغلبيتهم «الطربوش» الأحمر، وبهندامهم الأنيق، قامات سياسية كبيرة مثل فارس الخوري وتوفيق أبو الهدى، والنقراشي وعبد الرحمن عزام والجابري والنحاس ورياض الصلح وجميل مردم ونوري السعيد وحمدي الباجه جي وخير الدين الزركلي وأحمد أمين، ومعهم الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري الذي عيّن أول رئيس للجنة الثقافية في الجامعة العربية.

}} وراجعت قرارات مجلس الجامعة العربية، في السنوات الثلاث الأولى من نشأتها، وكيف كانت نسبة مساهمة مصر في موازنة الجامعة تصل إلى 42 في المئة، والعراق نحو 20 في المئة، وكيف تولى وزير خارجية سوريا جميل مردم حملة «الدعاية لفلسطين» في لندن وواشنطن في عام 1945. والعمل على توحيد الأحزاب الفلسطينية (منذ ذلك اليوم وحتى اليوم.. ما زالت المشكلة قائمة). وطالعت قرارات أخرى، بمنع الصحافة من الإساءة للعلاقات بين الدول العربية (الإشكالية مزمنة حتى الآن)، والاحتجاج على استفحال الإرهاب اليهودي في فلسطين (الاحتجاج نفسه)، ومكافحة الجراد (لدينا «جراد» متوحش في هذه الأزمنة)، والمطالبة باستقلال فزان وطرابلس وبرقة (3) واستعمال الأسماء العربية للشهور بدلاً من الإفرنجية، والاحتجاج على بريطانيا وأمريكا (بسبب تشجيعهما للهجرة اليهودية إلى فلسطين)، والتلويح بإرسال متطوعين إلى فلسطين، والمطالبة باستقلال فلسطين، ورصد مبالغ لمواجهة المجاعة في تونس وطرابلس.. إلخ.
}} عدت إلى مقر جامعة الدول العربية، قبل سنوات قليلة، لإلقاء ورقة بحثية عن «الدبلوماسية العربية، في عالم متغير»، في مؤتمر نظمته الجامعة، وبحضور عمرو موسى الأمين العام، مررت بالقاعة المؤدية إلى القاعة الكبرى للاجتماعات، حيث كنا نقضي فيها فترات الاستراحة، لامست بأصابعي الفسيفساء الملونة، الدمشقية والمغربية على جدران القاعة الصغيرة.. بدت لي باهتة، وكأنها شاخت. بحثت عن روح المكان، عن رائحة كانت مبثوثة في فضاء ردهاته وحجراته، عن موسيقى عربية شجية تتسلل إلى زائره، وتدعوه للتفاؤل والفرح والحلم الأخضر.
}} تذكرت حديث سيد نوفل، قبل أربعة عقود.. تذكرت الدرس الأول الذي تعلمته وأنا في صباي.

وقلت لنفسي... نعم «الآن فهمت».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"