هل أصبح الاحتلال شرعة دولية؟

01:27 صباحا
قراءة 4 دقائق

إذا اعتمدنا المواثيق والشرائع الدولية، التي صدر منها في القرن العشرين ما يوازي ما صدر في تاريخ البشرية كله ربما، فالأصل في هذه المواثيق والشرائع هو أن احتلال بلد أراضي بلد آخر، هو تصرف مرفوض تماماً في قواعد السلوك الدولي. وإذا حدث أن نزاعاً ما بين دولتين، قد تطور إلى احتلال إحداهما أراضي الدولة الأخرى، أو قسم منها، فقد لحظت المواثيق الدولية ضرورات إنهاء هذا الاحتلال بأسرع وقت ممكن (بعض القرارات الدولية نصت على إنهاء فوري للاحتلال). فإذا طال أمد الاحتلال، فقد أصدر المجتمع الدولي وثيقة خاصة بهذه الحالة (معاهدة جنيف الشهيرة) لتضبط تصرفات القوة المحتلة بقيود شديدة الوضوح، بعدم السماح نهائياً لقوة الاحتلال أن تتصرف بما يحدث أي تغيير في طبيعة الأرض التي تحتلها، أو طبيعة حياة سكانها، أو مواردهم الطبيعية.

فإذا وضعنا تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين (أي عصر ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية)، على مشرحة هذه المواثيق والشرائع الدولية، فإننا سنجد أمامنا حالتين استثنائيتين في هذه المسألة، سمح فيهما المجتمع الدولي لكل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، دون سواهما من دول العالم، بممارسة حالتين من الاحتلال الطويل والمستقر، خلافاً لكل ما نصت عليه المواثيق والشرائع الدولية ذات العلاقة.

بالنسبة ل إسرائيل وفلسطين، وحتى لو اعتبرنا قرار التقسيم (181) هو الأساس القانوني النهائي الذي يحدد ملكية كل منهما لمساحة معينة من أرض فلسطين التاريخية، فإن إسرائيل قد قامت باحتلالين مخالفين للقانون الدولي:

الأول: في العام ،1948 عندما رفعت نسبة الأراضي الفلسطينية التي أقيمت عليها إسرائيل من 56% من أرض فلسطين التاريخية (كما ينص قرار التقسيم) إلى 76%.

الثاني: في العام ،1967 عندما قامت إسرائيل بالاستيلاء على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية، إضافة إلى أراض عربية أخرى (في مصر وسوريا).

ومع أن ستين عاماً قد مرت على الاحتلال الأول، وأربعين عاماً على الاحتلال الثاني، فإن نظرة شاملة على وضع هذين الاحتلالين الإسرائيليين، في سياق الحياة الدولية، تشير إلى أن الاحتلال (في هذه الحالة بالذات) قد تحول تحت نظر المجتمع الدولي، بل وبمباركته ودعمه وحماسه في كثير من الأحيان، إلى حالة طبيعية دائمة، حتى أصبح المجتمع الدولي لا يتورع عن وصف من يقاوم حالتي الاحتلال هاتين، بالإرهاب الذي على المجتمع الدولي سحقه واقتلاعه من جذوره، حرصاً على الأمن الإسرائيلي، أي على الاحتلال الإسرائيلي.

لم يتخذ هذان الاحتلالان فقط صفة الديمومة الطبيعية كأي وجود لأي دولة على أرضها الطبيعية كما يحددها القانون الدولي، بل إن سجل إسرائيل في مخالفة كل أساسيات وفرعيات المحاذير التي نصت عليها وثيقة جنيف في التعامل بين القوة المحتلة والأرض المحتلة، هو سجل لا مثيل له في الحياة الدولية المعاصرة: تهويد القدس والضفة الغربية بالمستوطنات وجدار الفصل العنصري، والاستيلاء على جميع الموارد في الأراضي المحتلة، والتضييق على سكان القدس والضفة الغربية في سبيل ترحيل من يستجيب منهم للضغوط المعيشية، في عملية تغيير ديمغرافي واضحة لكل مناطق فلسطين التاريخية المحتلة.

وحتى عندما تحرك المجتمع الدولي من خلال محكمة العدل الدولية التي أصدرت قراراً بلا قانونية ولا شرعية جدار الفصل العنصري، فلا المجتمع الدولي تحرك بعد ذلك، ولا حتى العرب أو الفلسطينيون، لوضع هذا القرار موضع التنفيذ الحالي حيث يوجد ويتواصل جدار الفصل العنصري.

أما في حالة الأراضي السورية المحتلة في الجولان منذ أربعين عاماً أيضاً، فقد أصدر الكنيست الإسرائيلي تحت سمع وبصر المجتمع الدولي كله، قانوناً يضم الجولان المحتل إلى إسرائيل. ولم يؤد هذا القرار حتى يومنا هذا إلى تخفيف عطف المجتمع الدولي ل إسرائيل بل ودعمه الحماسي لها ولاحتلالها.

أما في العراق، فإن الولايات المتحدة تمارس في هذه الأيام ما يشبه الاحتفال بمرور خمس سنوات على الاحتلال الأمريكي له، والتباهي بهذا الاحتلال وأفضاله على العراق وشعب العراق، والتبشير بأنه احتلال باق إلى أمد غير منظور. فإذا أضفنا إلى هذا الواقع، أن عملية الغزو الأمريكي للعراق كانت قد تمت أصلاً ضد رغبة وإرادة المجتمع الدولي بأسره، وأن بوش قد توعد المجتمع الدولي يومها بالاندثار إذا لم يلتحق بركب غزو العراق، فإننا نجد أنفسنا أمام حالة استثنائية أخرى من حالات الاحتلال، الذي يكاد يكتسب صفة الشرعية الدولية، بحكم الأمر الواقع المفروض بالقوة، وليس بحكم المواثيق والشرائع الدولية المختصة، بل بتناقض كامل معها.

أما جردة الحساب الحقيقية للاحتلال الأمريكي، بعيداً عن بروباغندا المحافظين الجدد، فتتضمن فيما تتضمن:

مقتل مليون عراقي. مقتل أربعة آلاف أمريكي. هدم الدولة العراقية والمجتمع العراقي، بتفكيك مكوناته الأصلية ووضعها في حالة اقتتال وتصادم. هدر الثروة النفطية الهائلة للعراق، وتحويلها إلى ثروة سائبة، تحت رحمة شركات أغنياء الحرب النفطية. تدمير الثروة الإنسانية للحضارات القديمة التي تعاقبت على العراق منذ آلاف السنين، والتي تدوسها الدبابات الأمريكية، مما دفع منظمة اليونسكو إلى إخراج منطقة بابل التاريخية من إطار المحميات الأثرية الدولية، لكثرة ما عاث الاحتلال الأمريكي فيها تدميراً وتحطيماً وتهشيماً. وعمليات اغتيال مبرمجة لأعداد كبيرة من أصحاب العقول العلمية العراقية.

ومع ذلك ومع مرور خمس سنوات على الاحتلال الأمريكي للعراق، يبدو كأنه تحول إلى حالة دائمة مقبولة من كافة أطراف المجتمع الدولي، وبات مسلماً به من قبل الأنظمة العربية، وكأنما يسجل الرئيس الأمريكي المنصرف، انتصاراً تاريخياً على كل من عارض عملية الغزو في البداية، وتحقيقاً لنبوءته بأنه سيقوم بالغزو والاحتلال منفرداً، وسيلحق به الآخرون، كل الآخرين، بعد أن يصبح الاحتلال أمراً واقعاً.

في فلسطين، ثم العراق، حالتان استثنائيتان للاحتلال الذي يتحول إلى أمر واقع يوحي معه (أحياناً) كأن الاحتلال قد أصبح شرعة دولية.

لكن الملاحظ أنه إذا كان الفاعل في الحالتين الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن الضحية في الحالتين هم العرب.

هل يكون الحال مماثلاً، لو أن فرنسا أحبت أن تضم إليها جزءاً من أرض بلجيكا؟ أو أن تعيد ألمانيا ضم النمسا إليها، استعادة لأيام هتلر؟

الأرجح أن الأمور في حال حدوث أحد هذين الافتراضين، ما كان يمكن لها أن تسير كما هي الحال بالنسبة لاحتلال فلسطين واحتلال العراق.

فالشيء المؤكد في هذه المسألة، أن المجتمع الدولي لا يكترث بالضعفاء، ولا يرد للمظلومين حقوقهم، إذا تراجعوا عن التشبث الثابت والدائم بها، وعن تجسيد تشبثهم هذا، في كل ميادين النهضة الحضارية والتحرر الوطني، وليس فقط في ميدان العويل والصراخ والتشنج.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"