صانعو السياسة في العالم

03:00 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

درءاً للظنون وتشجيعاً للحوار أبدأ بإعلان أن هذا المقال يهتم غالباً بالسياسة الخارجية، ولن يتعرض للسياسة الداخلية، إلا حين تفرض نفسها على منطق المقال أو تخترق سياقه. أبدأ أيضاً بالاعتراف بأنني أجد صعوبة في صياغة الأسئلة الضرورية وراء النية في كتابة هذا المقال، أو أي مقال يتوجه نحو عرض وتحليل جانب أو آخر من حال العالم الآن. أسمع أن الإعلان عن تفادي الشأن الداخلي لا يحتاج لتقديم أو تبرير بعد أن صار قاعدة في عالم يزداد بعداً عن الديمقراطية.
تجمع تقارير المعلومات المتدفقة من أهم عواصم العالم وأقلها أهمية على حد سواء، على أن صانعي السياسات في مختلف الدول يواجهون صعوبات، أو بدقة أشد، صاروا يواجهون تعقيدات غير مألوفة عند صنع أو تعديل قرارات في الشؤون الخارجية. هنا لا ألاحظ اختلافاً جوهرياً بين تعقيدات يواجهها الرئيس فلاديمير بوتين، خلال يوم عمل في الكرملين بموسكو، وتعقيدات يواجهها الرئيس دونالد ترامب، خلال اليوم نفسه في البيت الأبيض بواشنطن. أعرف ويعرف المطلعون عن قرب أن كثيرين من المحيطين بالمكتب البيضاوي في البيت الأبيض وبالمترددين على الخارجية الأمريكية في ال «فوجي بوتوم»، وكلهم مسؤولون بشكل أو بآخر وفي لحظة أو أخرى عن اتخاذ قرار في شأن خارجي لن يجتمعوا على رأي واحد عند استجابتهم لطلب ترتيب الأعداء والأصدقاء لهذه الدولة الأعظم. لن نجد هؤلاء مجمعين على هوية العدو الأول لأمريكا، بل ولن نجد أغلبيتهم في صف هوية دون أخرى.
العدو الأول هو روسيا أم الصين أم الإرهاب أم مهربو المخدرات من وراء الحدود مع المكسيك؟
كانت السياسة الخارجية في زمن انقضى من المهام السياسية بسيطة التركيب. كان يمكن لرئيس دولة نامية أو حديثة الاستقلال أن يكتفي لإدارة سياسة بلاده الخارجية بالسير بخطى ثابتة وراء دولة عظمى بعينها. البعض اختار الانضمام إلى حلف لينعم بالراحة والاطمئنان تحت مظلته الآمنة. بعض مغامر اختار مسايرة أكثر من دولة عظمى. كان ثمن المغامرة معروفاً سلفاً والعائد أيضاً معروفاً أو مقدراً سلفاً. كان الثمن باهظاً. تغيرت الأوضاع. القاعدة الجديدة تشجع الدول الأقل شأناً على السير في ركاب أكثر من دولة عظمى في آن واحد. للمقارنة بين عصر الولاءات الثابتة وعصرنا، عصر تعددية الولاء، لدينا المثال التركي الراهن، حيث يقود الطيب أردوغان سياسة خارجية مظهرها بالغ التعقيد ومحتواها أيضاً. في واقع الأمر يكشف لنا يومياً الرئيس التركي عن وضع دولي مرتبك عرف كيف يستثمره لصياغة نموذج صالح للاستخدام في هذا الوقت تحديداً، وليس في أي وقت. استفاد من وجود رئيس في أمريكا عاشق لهواية هدم مؤسسات وأفكار لمصلحة اختلافات غير مؤكدة أو حتى معروفة. استفاد من نية مبيتة في البيت الأبيض وأخرى مبيتة في الكرملين، نيتان تشتركان في هدف تفكيك لحمة البيت الأوروبي. استفاد أردوغان من عجز مفاجئ أصاب مفهوم الحليف في العلاقات الدولية فراح يمارس بحرية، وربما باستهتار أيضاً، سياسات وأعمال خرق لشروط عضويته في حلف الأطلسي. تقديري أن تركيا لم تغير انتماءها للناتو، الناتو هو الذي تغير. في تقديري أيضاً أن تركيا واثقة كل الثقة من أن روسيا التوسعية عادت، بينما حلف الأطلسي يتفكك.
كذلك استفاد أردوغان من تغيرات في العلاقات والتوازنات داخل منظومة الاتحاد الأوروبي. أزمة البريكسيت كانت بمنزلة جرعة تنشيط للسياسة التركية تجاه أوروبا بعد مرحلة إبعاد وابتعاد متعمدين من الطرفين، المفوضية من ناحية، وأنقرة من ناحية أخرى. لم تكن البريكسيت المنشط الوحيد للرئيس أردوغان في علاقته بأوروبا. إذ حدثت خلال الأعوام القليلة الماضية جملة تطورات غيرت من طبيعة وشكل نظام توازن القوة داخل أوروبا. مثلا تأثرت سلباً مكانة أنجيلا ميركل، وبالتالي مكانة ألمانيا، في أوروبا نتيجة تدهور علاقاتهما المتوترة أصلاً مع الرئيس ترامب وإدارته. من جهة ثالثة، تأثرت سلباً مكانة ميركل، وبالتالي مكانة ألمانيا، نتيجة العجز الفاضح لنفوذ أوروبا، وألمانيا بخاصة، في التعامل مع روسيا حول الأزمة في أوكرانيا وسياسات التدخل الروسي في الشؤون الداخلية لدول أوروبا، ومنها ألمانيا وفرنسا. من جهة رابعة، تأثرت سلباً مكانة ألمانيا وفرنسا معاً، في أوروبا كما في خارجها نتيجة للخلاف المعلن بين الدولتين حول أدوار لأوروبا في الأزمة الليبية وقضايا الدفاع الإقليمي، وبخاصة أزمة الناتو والتصريح الذي أدلى به الرئيس الفرنسي لمجلة «الإيكونوميست»، واصفاً حال الحلف بحال إنسان بمخ تالف.
استفادت تركيا من أوضاع جديدة في النظام الدولي. اختارتها نموذجاً للمقارنة بين نمطي تعامل في السياسة الخارجية في عصرين مختلفين. ينقص في العرض الإشارة إلى فوائد أخرى عادت للرئيس أردوغان وتركيا، من خلال تعاملها مع النظام الإقليمي الأقرب إليها وهو النظام العربي. كان لا بد أن نسأل إن كانت تركيا استفادت بنفس القدر لو لم توجد روسيا، أم أن التوسعية الروسية تقف حائلاً ضد التوسعية التركية. «إسرائيل» استفادت من الوجود الروسي وتوسعت، وإيران استفادت وتوسعت. هكذا ننتقل من نظام إقليمي عربي بدا في نظر أردوغان هامداً إلى نظام إقليمي شرق أوسطي يبدو على البعد صاخباً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"