تعامل شباب الأمة مع الشبكة العنكبوتية

04:13 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. علي محمد فخرو

يحتاج جيل شباب وشابات الأمة العربية أن يضع جهداً مكثفاً ومستمراً لفهم وسيلة الشبكة العنكبوتية التي يستعملها يومياً بانغماس، ونهم، وتعلق، أيْ فهم كل جوانب تكوينها: من أهداف واضحة وخفية، من مقدار صحة المعلومات والإحصاءات التي تنشرها، من مقدار الكذب الذي يخترقها، ومن تغير طبيعة المؤسسات التي تشرف عليها.
وتكمن أهمية هذا الموضوع في الدور الكبير الذي لعبه الاستعمال المكثف لتلك الشبكات في تفجير وتنظيم حراكات ما يسمى «الربيع العربي»، من جهة، وفي الأدوار المتنامية المعقدة التي ينتظر أن تقوم بها تلك الوسائل في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكل المجتمعات البشرية.
دعنا نمعن النظر في التغير الهائل في طبيعة القوى التي تهيمن على الشبكة. ففي بداية هذه الثورة التواصلية الإلكترونية كانت المؤسسات التي تؤسس أنواع الشبكات، وبالتالي أنواع التواصل، شركات صغيرة ومحددة الوزن في الحياة الاقتصادية والمالية الدولية.
وكانت قيمة تلك الشركات تحسب بالملايين من الدولارات، وكان الهدف الأساسي من تكوينها هو في إتاحة المعلومات لكل البشر، وبالتالي في تفاهم المجتمعات، وتلاقح الثقافات. ولكن، وبمرور الوقت، ومن خلال انقلاب تلك الشبكات إلى أكبر وأنجح وسيلة للإعلان، تضاعفت قيمة الشركات وأصبحت تحسب بمئات المليارات، وقريباً جداً ستحسب بالتريليونات.
نحن إذاً، أمام انقلاب في طبيعة الشركات من شركات خدمية، ترمي لتسهيل نشر وتبادل المعلومات بين الناس، لتصبح شركات رأسمالية كبرى، تزيد من رأسمالها وأرباحها السنوية عن كل الشركات الدولية العملاقة، من مثل شركات البترول، وصناعة السيارات، بل وهي تبز هذه الشركات في قدرتها على التهام كل فرد، أو نشاط جديد في حقل تخصصها، لتصبح بالفعل شركات احتكارية قادرة على التحكم في أسعار الخدمات التي تقدمها، وفي التلاعب بالأسواق، وفي ابتزاز العملاء. وما عاد الهدف خدمياً لمساعدة البشر، إذ أصبح منغمساً في صراعات التنافس الرأسمالي العولمي المتوحش.
وبالطبع، لن يقف الأمر عند حدود الاقتصاد، إذ بدأ بالفعل بدخول ساحة السياسة. هنا ستبدأ شركات الشبكات العنكبوتية لتشتري، أو تضغط على أعضاء البرلمانات والحكومات والأحزاب لتنفيذ ما يناسبها، ويزيد من أرباحها.
وبالفعل فقد بدأت تنتشر الكتب في الغرب التي تتحدث عن التأثيرات السلبية لبعض نشاطات تلك الشركات في الحياة الديمقراطية في أمريكا، وإنجلترا، وبقية دول أوروبا. وهناك كتابات كثيرة عن الأدوار التي لعبتها شبكات من مثل «فيسبوك»، و»تويتر»، على سبيل المثال، في انتخاب الرئيسين باراك أوباما، ودونالد ترامب، في الانتخابات الأمريكية.
ومثلما هي تستعمل الآخرين، فإن الآخرين هم أيضاً سيستعملونها لتحسين مصالحهم، وتعظيم نفوذهم، في حلقة من تبادل المنافع الانتهازية. إنها اللعبة الرأسمالية بكل تفاصيلها، وتعقيداتها، وفضائحها، تطل علينا من جديد في ساحة التواصل الإلكتروني الجديدة.
ما يهم شباب أمة العرب هو أن يعرفوا أن تلك التغيرات ستساهم في جعل قسم كبير من الاستنتاجات الإحصائية التي تنشر عن طريق الشبكات مملوءة بالأخطاء، والقراءات التضليلية، وفي جعل قسم كبير من الأخبار والمعلومات عبارة عن نصف حقائق، تختلط مع أنصاف أكاذيب. ومع الوقت، ومع تزايد اشتباك وسائل التواصل، وتعاظم مصالحها الانتهازية، ستزداد وسائل شيطنة الإحصاءات والأخبار والمعلومات التي تقدم.
لنذكّر بأن الانتقائية، لأسباب مصلحية أو إيديولوجية، قد بدأت تمارس في حقول من مثل الادعاءت الصهيونية الكاذبة، أو التستر الاستخباراتي وراء مواضيع حقوق الإنسان، أو الأقنعة الكاذبة التي تلبسها بعض الحكومات الإمبريالية في إلصاق التهم بهذا النظام العربي، أو ذاك، من مثل امتلاك أسلحة الدمار الشامل، أو الأسلحة الكيميائية.
ما الذي نستطيع فعله لمواجهة الأمر؟ الجواب هو، أولاً، عدم الاعتماد الكلي والوحيد على شبكات التواصل العنكبوتي الاجتماعي، بل التفتيش عن مصادر أخرى، كالكتاب، أو المجلات العلمية المتخصصة المستقلة، أو الخبراء المشهود لهم بالنزاهة والاستقلالية على سبيل المثال. ولذلك فإن الإشارة إلى إحصاءات، أو معلومات، أو أخبار، أو تعليقات على شبكات التواصل، من دون الإشارة إلى مصادر موثوقة ومراجعة من قبل محكمين اختصاصيين نزيهين، يجب عدم الالتفات إليها، أو على الأقل اتخاذ خطوات التحقق منها.
والجواب، ثانياً، هو معرفة طبائع المؤسسات الرأسمالية الربحية، والحذر من جوانبها السلبية الكثيرة. ولأن شركات الشبكات العنكبوتية قد أصبحت شركات رأسمالية، شبه احتكارية، وخاضعة لمنطق تنافسات بضائع الأسواق، وقابلة للاستغلال من قبل أقليات النفوذ والهيمنة، فإن ممارسة الشك في ما تسمح، وما لا تسمح به، قد أصبح ضرورة قصوى. وهذا يتطلب استعمال منطق الوسائل العلمية في النظر للأمور. فالوسائل العلمية تعلم خطوات جمع المعلومات، وتمحيصها، وتحليلها، وعدم قبول ما هو غير منطقي فيها.
ولو كانت مؤسسات التعليم في بلاد العرب تبني في طلابها قدرات استعمال الوسائل العلمية الصارمة تلك لشعرنا بالاطمئنان، وعرفنا أن شباب الأمة سيتعاملون مع تعقيدات الشبكات العنكبوتية.
لكن مؤسسات التعليم العربية مشغولة بحشو الرؤوس بالمعلومات، وبإعادة إنتاج الثقافات المتخلفة في عقوق الأجيال.. هنا تكمن الأخطار، وهنا يبرز عِظم المشكلة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"