الإرهاب من فعل الدول أكثر منه الجماعات

05:16 صباحا
قراءة 4 دقائق
د .غسان العزي
رغم وجود عشرات التعريفات لمفردة الإرهاب وتكرارها في قرارات ووثائق وقوانين دولية فإنها لا تزال تفتقر إلى تعريف جامع مانع يحظى بإجماع . والسبب على الأرجح أن الدول النافذة ترفع صفة الإرهاب عن نفسها وتلصقها بجماعات وأفراد تعتبرهم خارجين عن القانون . وهؤلاء بدورهم يرفضون نسبة الأفعال التي يقومون بها ضد الدول بالإرهاب بل يعتبرونها مقاومة شرعية وقانونية للاحتلال والإرهاب الذي تمارسه هذه الدول . وبالتالي فإن ما يغلب على مفهوم الإرهاب هو الطابع السياسي المنحاز أكثر منه الموقف القانوني الموضوعي . أكثر من ذلك فإذا ما تمحصنا قليلاً في الأمر سوف نجد بأن الدول، لاسيما الكبرى منها، هي التي تقف وراء الظواهر الإرهابية إما مباشرة أومداورة عن طريق جماعات تدعمها، سراً أو علانية، خدمة لاستراتيجياتها ومصالحها الخاصة .
لنأخذ الولايات المتحدة، على سبيل المثال، مع التأكيد بأنها ليست الدولة الوحيدة في هذا المضمار، فإن سجلها حافل بممارسة إرهاب الدولة وبدعم الكثير من الجماعات الإرهابية علانية (تحت مسميات وذرائع متنوعة) وغيرها سراً أو عبر غض الطرف والتقاء المصالح، ولائحة الأمثلة في هذا المضمار طويلة . ففي أمريكا اللاتينية مثلاً دعمت عصابات إرهابية ضد نظام نيكاراغوا فتسببت بمقتل ثلاثين ألف إنسان وبمثلهم من الجرحى فضلاً عن تدمير بلد كامل . وقد لجأت ماناغوا إلى مجلس الأمن فاصطدمت بالفيتو الأمريكي . عندها توجهت صوب محكمة العدل الدولية فاستحصلت في 72 يونيو/حزيران 1986 على حكم يدين "الاستخدام غير الشرعي للقوة" من قبل واشنطن التي زرعت الألغام في موانىء نيكاراغوا،ويقر تعويضات لهذه الأخيرة . لكن واشنطن ردت بعدم الاعتراف بحكم المحكمة وعدم اللجوء إليها بعد ذلك ذهبت ماناغوا حينئذ إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أصدرت قراراً غير ملزم لمصلحتها صوتت له كل دول العالم ما عدا "إسرائيل" . وواشنطن نفسها هي التي دبرت انقلاب الجنرال بينوشيه على الرئيس أليندي في تشيلي، باعتراف هنري كيسنجر، قبل أن تغطي ممارسات الدكتاتورية العسكرية ضد الشعب التشيلي التي نددت بها كل منظمات حقوق الإنسان في العالم .
قصة دعم واشنطن لكل ممارسات الاحتلال "الإسرائيلي" في الأراضي العربية المحتلة وحروبها ضد العرب وبناء المستوطنات وحمايتها لها بالفيتو في مجلس الأمن وغير ذلك نعرفها نحن العرب ويعرفها العالم . أما حصار الشعب العراقي طيلة عقد كامل ما أدى إلى موت مليون إنسان عراقي بينهم نصف مليون طفل، فهذا ما اعتبرته مادلين أولبرايت ثمناً يستحق أن يدفع لمعاقبة صدام حسين، علماً بأن نظام هذا الأخير لم يتضرر من الحصار بل الشعب المسكين هو الذي دفع الثمن . ثم ماذا كانت نتيجة احتلال العراق والإرهاب الأمريكي الذي مورس فيه؟ ومن يجرؤ على محاكمة جورج بوش الابن؟
وبالطبع العام كله يعرف بأن ال"سي .آي .إيه" كانت وراء نشوء وتنامي تنظيم القاعدة الذي ضم "مجاهدين" عندما كان يحارب السوفييت لكنهم انقلبوا إلى "إرهابيين" عندما باتوا في وجه الولايات المتحدة . وتنظيم "داعش" اليوم وأشباهه ألم يستفيدوا من "غض طرف" على الأقل حتى لانقول دعم أمريكي وغير أمريكي؟
ياسر عرفات كان يصفه الرئيس ريغان بأنه زعيم عصابة إرهابية تقتل الأطفال . لكن بعد ذلك بأقل من عقد من الزمن كان يصافح بيل كلينتون في حديقة البيت الأبيض . وحتى نلسون مانديلا كان سجيناً إرهابياً في نظر واشنطن قبل أن تتبدل الأمور فيضحي بطلاً يمجده الأمريكيون قبل غيرهم .
الكيل بمكاييل عديدة وتغيير السياسات بتغير المواقف والمصالح لا يخدم محاربة الإرهاب، كذلك غياب اتفاق دولي على تعريف واضح جامع مانع للإرهاب يميزه عن المقاومة المشروعة للاستعمار والاستيطان والاحتلال . كذلك لا يمكن القضاء على الظاهرة الإرهابية المتنامية إلا إذا ما قررت الدول الكبرى التخلي عن استخدامها لمصلحتها . والطائرات الحربية وصواريخ التوماهاوك والطائرات الحربية بطيار أو من دونه وغيرها تفيد مصانع السلاح ومصدريه أكثر مما تفيد في الحرب على الإرهاب حيث ينبغي تقديم "القوة الناعمة" والذكية، السياسية والإعلامية والثقافية والأيديولوجية والقانونية وما شابه . ذلك أن المشكلة قد لاتكون في الإرهابيين أنفسهم بقدر ما هي في هذا الخزان البشري الضخم الذي يمدهم بالقدرة على الاستمرار والتمدد، ويجعلهم كالسمك في الماء، بحسب تعبير ماوتسي تونغ الشهير . وهذا الخزان تملؤه ممارسات الدول الداعمة للأنظمة الاستبدادية التي تقمع شعوبها، والسياسات الاقتصادية الدولية التي تنتج الفقر والتخلف والبطالة والسياسات التي تفرز ردود فعل تسقي تربة التعصب والتطرف واليأس .
وبالإضافة إلى الخزان البشري فإن تمويل الإرهاب مباشرة أو عبر التهريب وغسيل الأموال والتبرعات غير المباشرة وغيرها، آفة ينبغي التصدي لها . والدول وحدها القادرة على ذلك بواسطة أجهزتها المالية والمصرفية والاستخباراتية والمعلوماتية والأمنية .
إذا توفرت إرادة دولية حقيقة لمكافحة الإرهاب فمن الممكن القضاء عليه، لكن المشكلة في غياب مثل هذه الإرادة، لأن الإرهاب كان منذ أيام أرسطو الذي تكلم عنه، ولا يزال إلى اليوم أداة من الأدوات التي تستخدمها الدول في سياساتها واستراتيجياتها .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"