والعاقل من يفهم

03:55 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبدالعزيز المقالح

وهل هناك عقلاء لا يفهمون؟ سؤال تصعب الإجابة عنه ب«نعم»، وإن كان الواقع يؤكد أن الفهم درجات ومستويات. وقد وردت الجملة التي اخترتها عنواناً لهذا الحديث في مسرحية «مأساة الحلاّج» للشاعر الكبير الراحل صلاح عبدالصبور، وقد جاءت على لسان المتصوف بشر الحافي الذي زهد بالدنيا، وكان يسير على وجه الأرض عاري القدمين، صيفاً وشتاء. وسبق لي أن قرأت المسرحية المشار إليها أكثر من مرة، وحضرت أول عرض لها في أحد مسارح القاهرة، عندما كنت طالباً في الجامعة، لكنني لم أشعر بأهمية هذه الجملة، ولم توقظني من سبات اللافهم إلاَّ منذ أيام، ساعة تصفحت المسرحية عرضاً فهزتني، بل زلزلت كياني، وجعلتني أتساءل انطلاقاً من المشهد العربي الدامي: هل نحن عقلاء؟ وإذا كنا كذلك فهل نفهم؟ وهل نجحت المآسي المتعاقبة في أن تحجب العقل العربي عن الإدراك الصحيح، ومعرفة الأسباب المؤدية إلى ما نحن فيه؟
لقد اتسع الجرح، جرح الوطن الكبير، وامتدت شظاياه أفقياً ورأسياً وعمقاً، ووصل إلى كل مكان من الأرض العربية التي لا يشك أحد في أنها مملوءة بالعقلاء المتابعين لكل صغيرة وكبيرة في هذا الوطن، ولا يتعرض له من مؤامرات الداخل والخارج، وأن هؤلاء العقلاء لا ينقصهم الفهم، ولا تنقصهم الشجاعة، وما ينقصهم سوى عدم الإصغاء إلى ما يطرحونه، وما يقولونه عن تردي الأوضاع، وإمكانية إجراء الإصلاحات العاجلة، ووضع حد لتكالب الآخرين الذين يغريهم الواقع المأساوي، ويجدون معه فرصتهم الذهبية لفرض اشتراطاتهم وانتزاع ما لم يكونوا يحلمون بانتزاعه، في أي وقت من الأوقات. ولو كنا في الطرف الآخر ووجدنا أمة تأكل نفسها، وتتجاهل حاضرها ومستقبلها، لما ترددنا عن الانضمام إلى صفوف أعدائها طمعاً في الحصول على نصيب ما من الغنيمة السهلة. ولا عيب في الطامع الباحث لنفسه أو لشعبه عن نفوذ، وإنما العيب على المطموع الذي أنهك نفسه بالصراعات الثانوية وتناسى القوى التي تنتظر ساعة سقوطه.

وإذا كان الفهم مهماً، وهو بداية الطريق إلى معرفة الإشكاليات، فإن الأهم منه أن يكون مصحوباً برؤى عملية واقعية تنطلق من الثوابت الأساسية للأوطان المعتزة بكرامتها، والمؤمنة بأهمية صيانة وحدتها، والإعلاء من قيمة التجانس بين مواطنيها وتعميق مفهوم التعايش، وفضح كل محاولة لإيجاد الشقاق وإحياء النعرات الطائفية والمذهبية، وما تتركه من خلل في مفهوم المواطنة التي هي فوق كل الانتماءات الصغيرة والضيقة. لقد ظل الوطن العربي على مدى قرنين، مختبراً للقوى المعادية تبحث في تاريخه القديم والوسيط عن الثغرات التي تدخل منها إلى هدم وحدته وتجانس أبنائه، ولم يكن أي عربي في المشرق أو المغرب يعرف شيئاً عن ثنائية عرب وأمازيغ في الجزائر، ومرت عصور على أشقائنا في الشام يوحدهم اللسان العربي والتاريخ المشترك في مواجهة الأعداء، ولم تحدث حالة لافتة للنظر تشير إلى خلافات بين المسلمين والمسيحيين. وما كاد الاحتلال الأجنبي يثبت أقدامه في هذه الأرض العربية التي مثلت القلب في الكيان العربي حتى بدأت شياطين الإنس والجن تعبث بالنسيج الوطني القائم على الانسجام والوئام.
والأدهى والأمر أن يصل العبث والتخريب إلى أقطار عربية أخرى في المشرق والمغرب، ليس فيها أقليات عرقية ولا دينية لتجد نفسها في مواجهة مع الطائفية والمناطقية، وهو أعطى الاحتلال الأجنبي مدخلاً إلى لعبة خبيثة مكشوفة، إذا ما نجحت وحققت أهدافها المدمرة فإنها ستنتقل بآثارها السلبية، لا بين مدينة ومدينة أو قرية وقرية، إنما داخل الأسرة الواحدة، والبيت الواحد. ومن هنا تأتي أهمية الفهم وشموليته وتحويله إلى فهم عام يدرك معه المواطن العادي، قبل المواطن المثقف والمتعلم، خطورة التفتت والانصياع إلى خطاب الأعداء وما يهدف إليه من هدم للتعايش والاستقرار وتدمير لقواعد المواطنة، وسيكون على ما تبقى من الأنظمة المستقرة أن تقوم بدورها الوطني والقومي وألاَّ تكتفي بتركيز اهتمامها في نشر مستويات الفهم العربي على القطر الذي تحكمه، بل أيضاً إلى كل الأقطار العربية، من دون استثناء. فما أحوج الجميع إلى الفهم في أقصى معانيه، إذ لا يزال المثل العربي القديم «ما أمسى في جارك يصبح في دارك»، صالحاً لكل مكان وزمان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"