الهزيمة العسكرية والهزيمة السياسية

02:36 صباحا
قراءة 3 دقائق

أعتقد أن اختلافاً كبيراً، قد يصل حد التناقض الكامل، سينشأ في مرحلة لاحقة من هذا القرن الحادي والعشرين، بين المؤرخين الجدد الذين سيعيدون حتماً تاريخ الثلث الأخير من القرن العشرين في التاريخ العربي المعاصر، وبين الكتابات التأريخية والصحافية (خصوصاً)، التي أرّخت للفترة نفسها، قبل رحيل القرن، والتي ما زالت حتى الآن تعتبر يوم الخامس من يونيو/ حزيران من العام ،1967 اليوم المفصلي في هذا الثلث العربي الأخير من القرن العشرين، تحت اسم النكسة، التي نستعيد في هذه الأيام ذكراها الحادية والأربعين.

محور الاختلاف الرئيسي بل التناقض الرئيسي، بين التأريخ القديم لهذه المرحلة، والتأريخ الجديد (القادم في مرحلة لاحقة)، هو تحويل الأضواء الرئيسية (في الكتابة التاريخية الجديدة)، من الأداء العسكري في أيام يونيو/ حزيران من العام 1967(مرحلة عبد الناصر)، إلى الأداء السياسي الذي تجلى في تلك المرحلة، خاصة في

ما بين العامين 1973 و1978 (مرحلة السادات).

الغريب في أمر الرواية الراهنة لهذه المرحلة الأشد حساسية من تاريخ العرب المعاصر، أن معظم الكتابات التاريخية والصحافة العربية تتوقف بشكل أساسي عند الأداء العسكري لقيادة النظام المصري، في تلك الأيام السود من يونيو/ حزيران ،1967 وتتجاهل (بعضها عن عمد وبعضها عن غير عمد)، السنوات الثلاث البالغة الأهمية التي فصلت بين عودة عبد الناصر عن التنحي (بعد تحمل المسؤولية كاملة عما حصل يوم الخامس من يونيو/ حزيران) وبين رحيله، بعد ثلاث سنوات من حرب الاستنزاف المجيدة (عسكرياً وسياسياً)، وبعد إعادة بناء القوات المسلحة المصرية على أسس حديثة، أمنت وحققت الإنجاز العسكري الذي تم في حرب العبور عام 1973.

لقد شنت إسرائيل حربها (بدعم وتحريض أمريكيين) في العام ،1967 ليس فقط لإنزال هزيمة عسكرية بالقوات المسلحة للنظام المصري (وهو ما تم إنجازه فعلاً)، بل لتوظيف هذه الهزيمة العسكرية في كسر الإرادة السياسية لذلك النظام، تنفيذاً لرسالة الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون التهديدية التي كانت تريد من مصر إلغاء كاملاً لدورها العربي في تلك الحقبة.

لقد أثبت تطور الأحداث في السنوات الثلاث الأخيرة لحكم عبد الناصر، أن القسم الأول من الخطة الأمريكية - الإسرائيلية (إنزال الهزيمة العسكرية بنظام عبد الناصر) قد تحقق بنجاح باهر لم يكن يتصور سهولته أكبر المتفائلين في واشنطن وتل أبيب. لكن القسم الثاني من الخطة، أي كسر الإرادة السياسية للنظام وتصفية دور مصر العربي، لم يفشل فقط، بل إن التحدي الذي أوجدته الهزيمة العسكرية (النكسة)، قد أطلق حيوية جديدة داخل نظام عبد الناصر، جعلت تلك السنوات الثلاث الأخيرة هي أنضج سنوات ذلك النظام، وأحقها بالدراسات التاريخية الموضوعية، الخارجة من أسر حصر التاريخ في يوم الهزيمة العسكرية فقط.

إن من الحقائق الثابتة بالوثائق، لتلك المرحلة الحساسة فيما بين 1967 و،1970 أن إعادة سيناء لمصر (كاملة السيادة)، كانت عرضاً أمريكياً مطروحاً، من غير حرب جديدة، شرط قبول عبد الناصر بالشروط السياسية للهزيمة العسكرية السابقة، أي إنهاء دور مصر العربي، بانسحابها من الصراع العربي- الإسرائيلي، قبل تسوية قضية فلسطين تسوية عادلة. وهو الشرط الذي رحل عبد الناصر دون قبوله، رغم ما تمثله إعادة سيناء (كاملة السيادة) من إغراء لمصر بالانكفاء عن دورها القومي العربي، داخل حدودها الوطنية.

الذي حدث بعد ذلك ببساطة واختصار، أن القيادة السياسية الجديدة في مصر، بعد رحيل عبد الناصر، والتي تركزت بين يدي السادات منذ 15 مايو/ أيار ،1971 خاضت بجيش عبد الناصر، حرباً ناجحة في العام ،1973 لتقبل في العام 1978 بالشروط السياسية التي رحل عبد الناصر دون قبولها.

أي أن التراجع السياسي الكبير الذي لم يتحقق تحت ضغط الهزيمة العسكرية للعام ،1967 قد تحقق تحت ضغط الهزيمة السياسية المجانية (بعد إنجاز عسكري ممتاز في العام 1973) لقيادة مصر في عقد السبعينات. ما حدا بالمفكر العربي ميشال عفلق إلى إطلاق عبارته الشهيرة: الهزيمة مع عبد الناصر أشرف من النصر مع السادات.

حري بنا والحالة هذه، ألا نستعيد ذكرى النكسة، يوم حصول الهزيمة العسكرية في العام ،1967 بل يوم حصول الهزيمة السياسية في العام ،1978 وفيما تلاها وتأسس عليها من أوضاع عربية، ما زالت تجسد نكستنا السياسية والحضارية العامة التي تبيض وتفرخ فيها كل يوم، فيما بين المحيط والخليج، حتى إشعار آخر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"