سخط على الفساد

03:06 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي

تمثل ظاهرة الانتفاض الشعبي ضد الفساد الإداري والمالي في العراق، أحد أبرز التجليات عما يوحد العراقيين بعد سنوات عجاف من تغذية الانقسام الأهلي والمتاجرة به. من بغداد إلى البصرة جنوباً مروراً بالنجف وكربلاء والناصرية والمثنى والديوانية، تظاهر الآلاف من العراقيين تحت شمس أغسطس/آب الحارقة، ومع تردي خدمات الكهرباء. وباستثناء وعود جوفاء متكررة، فقد اعتصم المسؤولون الحكوميون بالصمت أمام هذه الظاهرة الاحتجاجية التي تدين مكونات السلطة التنفيذية والتشريعية.
تظاهرات كهذه جرت في العام 2012 في العراق تجاوباً مع موجة «الربيع العربي» آنذاك، وكانت تجمع مختلف أطياف العراقيين في مناطق شتى، كما الحال مع موجة الاحتجاج هذه، التي تدين العجز عن تأمين خدمات أساسية مثل الكهرباء في بلد يعوم على بحيرة من النفط. فيما لا تشكو دول فقيرة في عالمنا من غياب هذه الخدمة. غير أن الكهرباء هي شرارة موجة الاحتجاج، إذ إن ملف الفساد في هذا البلد مثقل بما لا يُحصى من وقائع وشواهد يلمسها المواطن في تراجع مستوى حياة عامة الناس، مع الارتفاع الصاروخي في مستوى حياة أهل دوائر الحكم والقريبين منها.
في العام 2012 وفي أثناء حكومة نوري المالكي جرى إلصاق تهمة الإرهاب بالمحتجين، وتم قمع تجمعاتهم دموياً. الآن وفي ظل حكومة حيدر العبادي، الذي لطالما أطلق وعوداً بمحاربة الفساد، فإن السلطة التنفيذية تبدو عاجزة عن إلصاق اتهامات مفبركة بالمحتجين، وجل هؤلاء المحتجين ينتمون لما يعرف بالحواضن الأهلية لأهل الحكم، لكنهم كغيرهم من العراقيين يشكون العوز وانخفاض مستوى الحياة، فيما روائح الفساد من حولهم تزكم الأنوف.
ومن الشعارات اللافتة التي رفعها المحتجون، والتي تعكس النضج الوطني والاجتماعي: «لا سنية ولا شيعية.. تسقط شلة الحرامية» كما حملت الموجة مسميات منها «انتفاضة الرغيف والكرامة».
وإلى الفساد والانتفاض ضده، فإن حزمة المعضلات الاجتماعية أخذت تحضر شيئاً فشيئاً ومنها الاحتجاج ضد البطالة التي تهدد الأجيال الشابة، والسلم الاجتماعي في بلد يستشري فيه تداول الأسلحة، ما قد يجذب المتعطلين إلى العمل الأسود في عالم الجريمة أو التكسب من الانخراط في ميليشيات، ومن الغريب أنه في وقت تتردد فيه أرقام بالمليارات عن بعض صفقات الفساد، فإن موظفين حكوميين يشتكون من انقطاع رواتبهم منذ عدة أشهر كما هي حال موظفي وزارة الصناعة والمعادن، في سابقة تعيد التذكير ب «مآثر» نظام القذافي في تجويع شعبه.

ومما يسترعي الانتباه أن هذه الموجة الاحتجاجية ذات المطالب الوطنية الجامعة، لم تتعرض للخطف من جهات سياسية وحزبية، وحافظت على استقلاليتها وسلامة مطالبها، وهو ما حمل رئيس الحكومة العبادي إلى الاعتراف بأن هذه الموجة تنطوي على إنذار للدولة. وهي كذلك بالفعل، إذا ما تواصلت وتمكن خلالها المحتجون من الحفاظ على سلمية تحركهم، وبلورة المزيد من المطالب الوطنية غير الفئوية، ومن إعادة اللُحمة لمكونات المجتمع العراقي، بعد طول استثمار واستغلال للانقسامات، التي صرفت الأنظار عما يوحّد العراقيين من احتياجات وحقوق، ومن أواصر اجتماعية مشتركة.

من المؤلم حقاً في بلد الرشيد أن يكون توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية هو محور مطالبات الناس، ومن دواعي الاستهجان أن تعجز الحكومات وإداراتها عن توفير الكهرباء وأحياناً الماء والنفط، وهذا العجز ظل يتستر منذ نحو عقد من الزمن بمكافحة الإرهاب والظرف الأمني. والحصيلة أنه لا الأمن توفر، ولا سيادة القانون أرسيت، ولا الخدمات الأساسية تحققت، فيما الفساد، باعتراف الأجهزة الحكومية، يشمل أعداداً كبيرة من المتنفذين، وهذه مجتمعة، مواصفات نموذجية للفشل في دولة تصدّرها رهط من غير المؤمنين بالدولة الوطنية الجامعة، ولا بحكم القانون، ولا حتى ببناء جيش وطني يحمي الثغور ويحرس السلم الأهلي. والنتيجة هي ما يراه العراقيون بالعين المجردة، وما يلمسونه لمس اليد، والذين مازال الكثيرون منهم يسعون للهجرة، ولو إلى بلاد تُعتبر فقيرة مقارنة ببلدهم العراق.
إن ما لا يدركه الكثير من المتنفذين في مستويات الحكم المختلفة، ومن اختصاصيي الفشل في إدارة الدولة، هو أن هذه الحلقة المفرغة من الفشل تبدّد موارد العراق وثرواته البشرية والطبيعية، وتعطّل عجلة التقدم، وتلقي مزيداً من الأعباء على الأجيال الجديدة للنهوض ببلدهم، وتدارك ما فاتهم من فرص التنمية والتطوير، بما يعني أن هذه الأزمة المستفحلة والمركبة سوف تلقي بظلالها الثقيلة لعشرات من السنين، والدليل على ذلك أن هذا البلد يكافح في هذه الظروف العسيرة لبلوغ مستوى البلدان النامية فقط، والتمتع بما كان يتمتع به قبل نصف قرن، وأكثر من الزمن، بدلاً من الانخراط في مواكبة الدول والمجتمعات المتقدمة، كما هي حال الدول الطموحة التي تُحسن تمثيل تطلعات شعوبها، والتي تولي الاحترام للقانون ولا تكتفي برفعه شعاراً لها.
إن الأمل كبير في أن يواصل العراقيون إحياء كل ما هو وطني، وجامع ومشترك بينهم، وقطع الطريق على المستثمرين في الانقسامات الاجتماعية والانشطارات المذهبية والدينية، وليتهم في هذه المناسبة يأخذون العبرة من دولة طموحة وفتية، مثل دولة الإمارات التي سنّت قوانين تدين التمييز بين شرائح المجتمع، على أساس اللون أو العرق أو الدين أو الجنس، وتجرّم بث الكراهية. إذ إن الحاصل حتى تاريخه في بلاد الرافدين هو تجريم المساواة بين الناس، والتفاخر ببث سموم الكراهية على المنابر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"