حُبٌّ في زمن الحَرْب

أفق آخر
05:34 صباحا
قراءة 3 دقائق

قَبْلَ أنْ يُصْدرَ ماركيز روايته الحُبُّ في زَمَن الكوليرا كانت هُناك مئات الرّوايات عن الحب في زمن الحرب والحب في زمن الكراهية . أبرزها ما كُتِب خلال الحَرْبين العالميتين الأولى والثانية في القرن الماضي، ومنها ما تحوّل إلى أفلام سينمائية شهيرة كأعمال هنجوي، ومنها لمن تقرع الأجراس؟ ووداعاً للسِّلاح . وفي هذا العام شأن كل الأعوام التي مضت خلال عِقْدَين يتَزامنُ عيد الحُب (فالنتاين) مع صِراعات دامية وحروب أهْلية وشبه أهلية في العديد من الأماكن الأشدّ سُخونة على هذا الكوكب . ولم يَعُد عيدُ فالنتاين يَمرّ بلا صَخَبٍ هُنا وهُناك . واعتراضات ممن لا يَرَوْنَ فيه عيداً عالمياً على الجميع أن يُشاركوا فيه، وفي ماليزيا بالتحديد بلغ السِّجال حول فالنتاين ذروته . بعد أن أعلنت جماعات كثيرة أنه ليس من تراث البلاد أو من تقاويم عقيدتها .

والعرب هم من أكثر شعوب العالم إسهاماً في هذه المناسبة وتباع في أسواقهم أعدادٌ هائلة من الورد الأحمر لديهم ما يَقْتَرِحونَهُ بديلاً لفالنتاين . ففي تُراثهم الشّعبي ثمة حكاية آسِرة عَنْ تَحوّل دَم الشهداء إلى شَقائق نعمان وهي أزهار بِلون الدم القاني تملأ السهول وسفوح الجبال في مطالع كل ربيع .

وهذا ليس اعتراضاً على أية مناسبة تُمجّد الحب، وَتُذكي العواطف الإيجابية للسلام بين البشر، لكن الحبّ يُصْبح جملة معترضة في كتاب الكراهيةِ الأسود الذي ألّفه جنرالات وَسادِيون من عُشّاق اللون الأحمر إذا كان حكراً على الدّم .

وفي الأزمنة الصّعبة التي ينتشر فيها وباء الكراهية تصبح حاجة الإنسان إلى الحب بمعناه الواسع مساوية لمعنى وجوده في هذا العالم .

وإذا كان هناك مَنْ يُضيِّقون مَفْهوم الحُبّ بحيث يقتصر على الرجل والمرأة فقط، فبالمقابل ثمة مَنْ يَدْفَعونَهُ إلى أقْصاه، فالحبّ عاطفة إنسانية عَميقة تَشْمَل الوالدين والأصدقاء، وقبل ذلك كله الأوطان والرّموز والقيم .

والشّعوب التي لَدَيْها كلُّ هذا اللون الأحمر من شَقائق النُّعمان قد تكون الأوْلى والأجْدَر باقتراح يوم الحب الأعظم . فالشهداء منهم آباء وأزواج وأبناء وأشقاء، وكذلك الشهيدات في تاريخ كان قَدَرُهُ أنْ يتحوّل إلى اسْتِجابات فَذَّة وباسلة لتحدّيات من كل نوع .

في إحدى روايات هنجوي عن الحب في زمن الحرب، يَهْربُ ضابط جريح مع مَمَرِّضة في مستشفى إلى جبال الألب . كَرَمْز لبياضٍ بِكْر، احتجاجاً على عالم الحرب القَذِر . لكن الممرضة تموت في مخاض الولادة كَأنّ الرّاوي يُريدُ أن يقول للناس إن الحب النظيف ممنوعٌ في زمن الحَرْب والكراهية، وإن العُقْمَ لا الخصْبَ هو سِمَةُ أيام سودٍ كتلك . وهذه الزيارة السّنوية لفالنتاين في مُنتصف شهر بارد أصبحت تقترن منذ عقود بحروب وانتحارات جماعية لمن يأكلون لَحْم بعضهم أحْياءً وَمَوْتى، والثقافة التي يَجْري بَثُّها الآن هي ثقَافةُ مَوْتٍ وليس ثَقافة تَبْشيرٍ بالحياة للإقبال عليها بِعُنْفوان يَليقُ بأشواق البشر نحو الحرّية والعدالة .

نحن لن نقول لا وقت للحب، فثمة وقت لكل نشاط إنساني . وحين كَتَب الألماني ريمارك روايته لِلْحُبِّ وَقْتٌ ولِلْمَوتِ وقتٌ كان هو الآخر من شُهود الحرب العالمية التي جعلت قارة شاسِعة تعجُّ بالأيتام والأرامل والمشردين .

لكن مفردة الحُبّ شأن قاموس الحياة كله تعرضت لإهانات أصَابَتْها في الصَّميم، فالحب ليس امتلاكاً أو نزواتٍ أو مجرد وردة حمراء، إنه عافية الرّوح، والإيثار بدلاً من الأثْرة، والتبشير بالشّفق لا بالغَسَق . مَنْ شوّهوا الحبّ هم أنفسهم مَنْ زيَّنوا الكراهية وأجْروا جراحاتٍ للقُبْح من أجل تجميلِه، والكوكب الذي يُوجد فيه من أسلحة الإبادة والبارود أضعاف ما فيه من أسباب الحياة هو كوكب مُحْتل، فمن يرسمون خطوط الطول والعرض فيه لا يَرسمونها بالورد، بل بالمبيدات البشرية لا الحَشَريَّة، فكيف يمكن أن يَحْتفِلَ بيومِ الحُبّ مَنْ تخَصَّص في تصنيع الأحقاد والضَّغائن والثَّأرية العمياء؟

بالرغم من كل ذلك فالحب باقٍ كتوأم للإنسان يدافع عنه الطفل والمثقف الحرّ والشهيد والشّاهد . .!!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"