القضاء المصري

04:28 صباحا
قراءة 4 دقائق

كنا نتحدث دائماً عن اعتزازنا بالقضاء المصري وتاريخه الشامخ الذي نفاخر به ونزهو، ولكن ذلك الحديث قد اكتسب مضمونه الحقيقي في الأعوام الثلاثة الأخيرة، حيث تحمّل القضاء المصري أعباءً جساماً ينوء بحملها نظيره في أي دولة أخرى، فالقضاة يلهثون ما بين الانتخابات والاستفتاءات، وبين الكسب غير المشروع والمحاكمات، وبين دهاليز النيابة العامة والشكايات! لقد أثبت قضاة مصر أنهم من سلالة عظيمة، لا يفتقدون الوطنية الصادقة ولا يعوزهم الضمير الحي، يؤمنون برسالة القضاء التي تعلو كثيراً على مفهوم الوظيفة فقد بذلوا في السنوات الأخيرة جهوداً تكاد تعادل ما بذلوه في العقود الأخيرة كلها، لذلك فإننا نحني رؤوسنا تحية وإجلالاً لهم سواء المؤيد منهم أو المعارض لما جرى فالقضاة في النهاية هم ورثة الأنبياء وهم ضمير الأمة وقلبها النابض وحماة الحقوق والحريات والمدافعون عن هوية الشعب عندما تتهدده المخاطر أو تعبث به الأهواء، ولكن الظروف الأخيرة وحالة الانقسام الحادة في المجتمع المصري تطرح أمامنا عدداً من الملاحظات حول دور القاضي في مصر المعاصرة ونوجزها فيما يلي:
* أولاً: إن استقلال القضاء هو واحد من أبرز مظاهر الدولة المدنية الحديثة وأكثر سمات الديمقراطية تأثيرًا في حياة الشعوب، ولم يكن الجنرال شارل ديغول عملاق الدولة الفرنسية الحديثة مبالغاً عندما طالب به الشعب الفرنسي عام 1958 لينقذ فرنسا من وحل المستنقع الذي ألقت الجمهورية الفرنسية الرابعة بنفسها فيه محاولة قهر الشعب الجزائري واستمرار سياسة الاستيطان التي فرضتها عليه حين سأل شارل ديغول يومها، وهو يرى أوضاع بلاده متردية للغاية، ما حال القضاء الفرنسي؟ فقالوا بخير، فرد قائلاً إذاً "فرنسا مازالت بخير"، فالقضاء واجهة الدولة العصرية ومرآة سلامتها لذلك يتعيّن دائمًا إبعاده عن التلوث السياسي ليظل شامخاً لا يتأثر بأهواء ولا يخضع لضغوط .
ثانياً: إن تأمين القاضي مادياً ومعنوياً شرط أساسي في الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة حتى يظل القاضي بمنأى عن أي إغراء مرتفعًا عن أي مصلحة شخصية، ومهما نال القاضي من استحقاقات، فهي لا توازي الإرهاق الذي يعانيه ولا الظروف الصعبة التي تحيط به لأن المفترض فيه أن يبتعد عن سلوك العامة وألا يغشى مجالس السفهاء، بحيث يشعر القاضي أن مستقبله ومستقبل أسرته مكفولان في ظل استقلال القضاء ونزاهته وترفعه .
* ثالثاً: إن ما جرى في الأسابيع الأخيرة من تنحي بعض القضاة عن مواصلة النظر في عدد من القضايا المتصلة بجماعة "الإخوان المسلمين" نتيجة استشعار الحرج كما يقولون، هو مؤشر خطر يوحي بانطباع أنهم قد خضعوا لتهديدات مستترة لا يريدون الإفصاح عنها، كما أنها تعني أيضًا أن شبح اغتيال المستشار "الخازندار" الذي سقط أمام منزله "بالمعادي" برصاصات "الجماعة" قد عاد ليسيطر من جديد على أجواء القضاء المصري الحر الشريف! خصوصًا أن الخوف ظاهرة بشرية وصفة إنسانية لا نستثني أحدًا منها، لاسيما بعد اغتيال بعض ضباط "الأمن الوطني" المعنيين بمتابعة قضايا "الإخوان"، لذلك فإنه يتعين على الدولة المصرية أن تكفل "الحراسة المشددة" للقضاة المصريين المكلفين بالنظر في الاتهامات الموجهة لأفراد "الجماعة" في الفترة الأخيرة .
* رابعاً: ضرورة الكف الإعلامي عن التدخل المستمر في شؤون القضاء أمر مطلوب كذلك الابتعاد عن إقحام "السلطة القضائية" لتصبح مادة إعلامية تتداولها الصحف والفضائيات بمبرر وغير مبرر، حتى أصبحنا نرى في السنوات الأخيرة تراشقاً مباشراً بين القضاة وغيرهم وهو أمر غير مقبول بمعايير القضاء السوي، كما أن ظهور القضاة في "أجهزة التلفزة" متحدثين أو معقبين هو أمر غير مسبوق قد ينال من استقلال القضاء وكرامة رجاله .
* خامساً: إننا ندعو السادة القضاة أصحاب القامات الرفيعة الذين يجلسون على منصة العدالة بالتوقف عن التصريحات التي تخرج عن نطاق مهمتهم المقدسة، وأن يدركوا أن القضاء "رسالة" وليس "وظيفة" وأنه "مسؤولية" أخلاقية ووطنية وإنسانية في آن واحد حتى لا تنالهم شبهات ولا تحوم حولهم أقاويل، خصوصاً أن تسييس القضاء هو أكثر ما يصيب العدالة في مقتل وينال من مكانتها الرفيعة .
. . هذه ملاحظات هي أقرب إلى الرسائل المخلصة من مواطن إلى سدنة العدالة وحرَّاس القانون الذين يتحملون المسؤولية الأولى في استقرار الدولة والتمكين لأعمدة وجودها في فترة شديدة الصعوبة بالغة التعقيد من المسار الوطني عبر تاريخنا الحديث، ونحن نؤكد أن هذه الرسائل تصدر عن اعتزاز شديد بالقضاء المصري وتاريخه المضيء الذي ألهم الأنظمة القضائية في المنطقة وشارك في بنائها، مدركين المصاعب التي تواجه القضاء والقضاة في دولةٍ سوف يصل عدد سكانها إلى مئة مليون خلال سنوات، فإذا كنا نبحث عن العدالة الناجزة فإننا يجب أن نوفر للقضاة المناخ المادي والمعنوي الذي يسمح لهم بممارسة عملهم في حيدة ونزاهة واطمئنان مع تأمين سلامتهم في كل الأوقات، وقد يقول قائل إن القضاء المصري يدفع من ضريبة التراكم السلبي لنظام التعليم المصري في السنوات الأخيرة، شأنه شأن غيره من مؤسسات الدولة وقطاعاتها المختلفة واضعين في الاعتبار أن تسرب بعض العناصر من ذوي الانتماءات السياسية للجهاز القضائي يكلف الدولة المصرية في النهاية ثمناً باهظاً ويجعلنا ندرك أن التهاون في تحديد خصائص أي وظيفة قد تكون له آثار سلبية أما في القضاء فآثاره كارثية .
إن النظام القضائي المصري قد قام على فلسفة تاريخية تؤمن بأن العدالة عمياء تتعامل وفقاً للقاعدة القانونية المجردة التي تنصرف إلى الناس سواسية ولا تنظر إلى شخوصهم أو مواقعهم، كما أنها تؤمن بسيادة القانون وتقديس مفهوم الحق وإنكار الشوائب التي تلحق بالقضاء المصري العريق، وفي النهاية فإن قضاة مصر يدركون أن اهتمامنا بهم ينبع من حرصنا عليهم بل وحرصنا على وطنٍ ننتمي إليه ونعتز به إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"