الذكاء الاصطناعي في خدمة السياسة

02:31 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

بدأت الأبحاث والدراسات العلمية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، تعرف تحولات كبرى مع التطورات الحاصلة على مستوى العلوم المعرفية، والمعلوماتية والرياضيات التطبيقية والمنطق بأشكاله وفروعه المختلفة، من المنطق الرمزي الصارم، إلى المنطق «الضبابي» الذي يحاول التأقلم مع تعقيدات الذهن البشري، وصولاً إلى مفاهيم لغة الفكر المرتبطة بفلسفة الذهن.
كما أضحت هذه الأبحاث تتخذ أهمية قصوى بالنسبة للتحولات العالمية الجارية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، بشكل بات يؤثر بوتيرة متسارعة على مستقبل الإنسانية، في مجالات حيوية كالعمل والتشغيل. ويمتد تأثيرها الآن نحو السياقات الجيوسياسية للصراع ما بين القوى الكبرى، التي بدأت تخوض خلال العقد الأخير، حرباً ضارية تتعلق بمحاولة تحقيق السبق التكنولوجي، بهدف الهيمنة على الفضاءات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، الذي يتوقع كثيرون أنه سيتحول خلال العقود المقبلة، إلى مصدر القوة الرئيسي والحاسم في المواجهات المتعلقة بالجغرافيا السياسية.
ويشير مصطلح الذكاء الاصطناعي في الغالب، إلى مجموعة النظريات والتقنيات التي يتم وضعها، والاستعانة بها، بغرض ابتكار آلات قادرة على محاكاة الذكاء البشري، وبالتالي فهو لا يشكل حقلاً معرفياً مستقلاً، ولكنه يمثل نشاطاً بحثياً يرتبط بمجموعة من المفاهيم والتكنولوجيات، التي تلجأ إلى فروع واختصاصات متعددة، يمكنها المساعدة على تطوير كفاءة هذا الذكاء الاصطناعي.
وهذا ما يجعل القواميس المتخصصة تُقرّ بصعوبة تقديم تعريف متفق عليه للذكاء، في صورتيه البشرية والاصطناعية؛ الأمر الذي دفع بعض الباحثين إلى القول، إن مجمل الأبحاث التي تتعلق بالذكاء الاصطناعي، ترتبط بمجال المعلوماتية، الذي يحرص أصحابه على بلورة برامج تحاول محاكاة السلوكيات البشرية، من خلال تقديم تحليلات للبنيات المختلفة، وحلول للمسائل الشائكة والمساعدة على اتخاذ القرارات.
وقد كانت البداية التاريخية لهذا الذكاء التقني خلال سنة 1956، مع انعقاد أول مؤتمر للذكاء الاصطناعي في كندا، بإشراف الرياضي جون ماكارثي، حيث واجهت في بداية الأمر، الأبحاث المتعلقة بهذه «القارة المعرفية» الجديدة، صعوبات جدية تتعلق بقدرة الآلة على بناء المعنى، وليس فقط العمل على توظيفه.
بيد أن هذه الأبحاث وصلت مع حلول الألفية الثالثة، إلى مرحلة متقدمة من النضوج، نتيجة الثورة التقنية التي حصلت في عالم الاتصالات والمعلوماتية من جهة، ونتيجة أيضاً لتغيير الاستراتيجيات المتعلقة بالبحث في أهداف وغايات الذكاء الاصطناعي من جهة أخرى.
وعليه فإن هذا النشاط البحثي المتواصل منذ أكثر من عقد من الزمن، لم يعد يهدف إلى إدخال الذكاء الاصطناعي في صراع مع الذكاء البشري، بقدر ما أضحى يعمل على بناء برامج متخصصة قادرة على حل مسائل طارئة، وعلى مساعدة الذهن البشري على القيام بمهام محددة بكثير من الدقة والكفاءة؛ كما هو الشأن الآن بالنسبة «للأنظمة المتعددة، والفاعل الذكي، أو الذكاء الاصطناعي التطوري»، الذي يمكنه أن يضيف المعطيات الجديدة التي يحصل عليها، من أجل توظيفها في تقديم حلول مبتكرة، وفق ما يحدث عادة على مستوى الذهن البشري.
ومن الواضح بناء على ما تقدم، أن الذكاء الاصطناعي الذي شهد كل هذه الطفرات العلمية والتقنية المتتالية، لا يمكنه أن يظل مسجوناً في سياقاته العلمية البحتة، بعد أن أصبح يقدم لمستخدميه قدرات ومهارات غير مسبوقة، بالنسبة للإمكانيات التقليدية المتاحة أمام الذهن البشري؛ وليس هناك ما يستوجب الدهشة بالتالي، عندما نلاحظ تحوّل هذا الذكاء إلى سلطة سياسية واقتصادية ومجتمعية، تفرض قوانينها على مجمل أنساق العلاقات الإنسانية، التي ظلت سائدة طيلة قرون من الزمن.
وقد بدأ هذا التحوّل العلمي والجيوسياسي الجديد، المبني على المعطيات التقنية التي بات يشكلها الواقع الافتراضي، يدفع كثيراً من الفاعلين الكبار على مستوى مسرح السياسة الدولية، إلى تأكيد الأهمية الاستثنائية التي أصبح يمثلها الذكاء الاصطناعي، بالنسبة لمستقبل الدول والشعوب، حيث صرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن البلاد التي ستحصل على الزعامة في هذا المجال ستكون هي المهيمنة على العالم، وأشار الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، إلى الشيء نفسه عندما قال، إن الأمم التي ستتحكم في الذكاء الاصطناعي، ستكون بمثابة القوى العظمى في المستقبل.
وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن الاستخدام المزدوج للذكاء الاصطناعي، أضحى يمثل التحدي الأكبر بالنسبة لمعظم دول العالم، فإلى جانب توظيفاته المدنية المثمرة، فإن استثماره في المجالات الأمنية والعسكرية، يشكل تهديداً كبيراً للأمن القومي للكيانات الوطنية، في سياق الصراع المحتدم حالياً، والمتعلق بمراكز القوة والنفوذ على المستوى الدولي، لأنه يفرض إعادة تقديم تعريفات جديدة لكل المفاهيم المتعلقة بالقوة والسيادة. ونستطيع أن نزعم في السياق نفسه، أن السباق التكنولوجي المحتدم حالياً، ما بين الصين والولايات المتحدة على مستوى الأبحاث المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، سيحدث تحولات كبرى في موازين القوى عبر العالم، لاسيما إذا أخذنا في الحسبان التعاون العلمي، الذي تقوم به دول «البريكس» بقيادة روسيا والصين والهند، من أجل تطوير المنظومات التقنية والمعلوماتية الهادفة إلى كسر الهيمنة، التي تمارسها الدول الغربية على المسرح الدولي؛ الأمر الذي يجعل الحروب المقبلة تتحول تدريجياً إلى حروب معرفية، ليس بالمعنى المتعارف عليه تقليدياً، والذي كان قائماً على تسخير القوة العلمية لخدمة القوة المادية؛ بل بالمعنى الذي تكون فيه القوة المعرفية قادرة على تحقيق هامش كبير من الاستقلالية، يجعلها تمارس الدور الريادي الذي ظلت تمارسه حتى الآن قوة الردع النووي، على مستوى العلاقات الدولية منذ الأربعينات من القرن الماضي.
وهذه الرهانات الجديدة هي التي دفعت الولايات المتحدة، إلى التعبير عن مخاوفها بشأن تنامي قوة الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، والهادفة بحسب الخبراء الغربيين إلى جعل الصين تصبح الدولة الرائدة في هذا المجال مع حلول سنة 2030.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"