«ربيع عربي» في لبنان

01:21 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي

علاوة على دوافعه المحلية ومراميه الوطنية الخاصة به، فإن الحراك المدني اللبناني يبرهن في المقام الأول على أن موجة الربيع العربي التي اندلعت أواخر عام 2010 لم تضمحل أو تتبدد، وأن الحراك في بلد الأرز هو حلقة جديدة من هذه الموجة. يُستدل على ذلك من التشابه الكبير بين هذه الحلقة الجديدة وبين حلقات سابقة في بلدان عربية.

الحراك الأخير نشأ على خلفية أزمة سياسية واجتماعية، سياسية تتعلق بشغور منصب رئاسة الجمهورية والتمديد المتكرر للمجلس النيابي، واجتماعية متمثلة بكارثة النفايات التي أضيفت إلى أزمات البطالة وارتفاع تكلفة المعيشة.
وكما في الحلقات السابقة من موجة الربيع فإن المحتجين يتشكلون من كتلة شبابية عريضة غير حزبية وغير طائفية الهوى، تساندهم تيارات نقابية مستقلة وشرائح من منظمات المجتمع المدني. وفي الواقع اللبناني فإن اختراق الانتماءات الحزبية والطائفية والمناطقية، وتجاوزها يمثل ما يشبه الإعجاز، فقد تكرس على مدى عشرات السنين واقع يقوم على أن تحقيق مصالح الجماعات وحتى الأفراد يمر عبر القنوات الطائفية، وهي بطبيعة الحال مصالح فئوية.

أما المطالب المرفوعة فتستقر حول إصلاح شامل في مؤسسات الدولة، إذ لم يلق شعار إسقاط النظام اللبناني أي التفاف حوله من المحتجين. وتتوزع المطالب حالياً بين من يدعو إلى انتخاب رئيس الجمهورية والكف عن محاولات تعطيل الانتخاب، وبين من يدعو داخل الحراك إلى أولوية إجراء انتخابات نيابية ضمن قانون انتخابي يقوم على التمثيل النسبي. إضافة إلى مطالب عاجلة منها على الخصوص استقالة وزير البيئة المسؤول المباشر بحكم الاختصاص عن كارثة النفايات.

وكما تعرضت حلقات سابقة من الربيع العربي لمحاولات اختطاف من جهات ركبت الموجة، فإن الحراك اللبناني تعرض منذ البداية لمثل هذه المحاولات وما زال يتعرض لها، غير أن الحراك في وجهته الأساسية ظل محافظاً على استقلاليته وابتعاده عن التيارات الحزبية المهيمنة، وعلى الأخص ابتعاده عن قوى 8 آذار و14 آذار، وهما الفريقان الكبيران المهيمنان على الحياة السياسية والنقابية والإعلامية وعلى مؤسسات الدولة منذ أزيد من عشر سنوات.
وإذا قيّض للحراك أن يواصل صموده الاستقلالي عن المكونات التقليدية للحياة السياسية المحلية، فإنه لن يعود مستبعداً في مقبل الأيام أن ينقلب السحر على الساحر، وأن ينجح الحراك في اختراق تلك المكونات واجتذاب مؤيدين له من داخلها. وعندئذ فإن الحراك يكون قد حقق إنجازاً نوعياً في كسر الاستقطابات القائمة، وبلورة أجسام تمثيلية جديدة للشعب.
وبصرف النظر عن المآلات التي سيفضي إليها الحراك اللبناني الشبابي، إلا أن هذه الخطة هي من التطورات النوعية النادرة في هذا البلد، ما يعكس حيوية المجتمع اللبناني وما يدلل على عمق الأزمة السياسية والاجتماعية التي يشهدها لبنان الأخضر، وبما يثبت أن هذا البلد الصغير هو كما كان عهده من قبل في قلب التفاعلات السياسية والثقافية العربية، والأهم أن موجة الربيع العربي التي عصفت بالمنطقة قبل نحو خمس سنوات قد ألقت بذورها في هذا البلد، وأن تلك البذور قد لاقت أخيراً بيئة وظروفاً سمحت لها بالتفتح، ومن حسن الطالع والتقدير أن هذا الحراك يسلك سلوكاً سلمياً واضحاً رغم محاولة بعض القوى الاندساس في هذا الحراك والقيام بأعمال تخريب لممتلكات عامة لتشويه صورة الحراك ومحاولة حرفه عن أهدافه المعلنة. ومن دواعي الثقة أيضاً أن السلطة التي تتعرض لموجة نقد مريرة في الشارع، لم تسلك سلوكاً قمعياً تجاه الحراك وأنها تراجعت عن استخدام العنف المفرط أو التوقيف الجماعي لمحتجين، وهو ما عزز الأمل بإدامة الطابع السلمي للحراك، وباحتمال تحقيق اختراق سياسي متفق عليه يزيل الاحتقان ويحقق بعض مطالب الحراكيين في هذه المرحلة.
ومن المنتظر في هذه الأثناء أن تكون قد التأمت طاولة حوار بين كتل نيابية وحزبية، مع اشتداد الضغوط من داخل أروقة الحكم، وارتفاع الآمال كذلك بأن يجنح النواب إلى كسر الحلقة المفرغة ويتوقفوا عن المماطلة والتسويف، واللجوء إلى انتخاب رئيس توافقي وفاقي لا يشكل تحدياً لأحد، وأن يتمتع هذا الرئيس في الوقت ذاته ببرنامج إنقاذي تشارك مختلف الفئات بوضع محتواه، وربما بما في ذلك ممثلون لقوى شبابية من الحراك، وذلك من أجل تلبية مطلب أساسي يجمع عليه اللبنانيون، وكذلك أصدقاء لبنان الكثر في العالم العربي والعالم.

أجل إن الحراك اللبناني شاهد على أن الربيع العربي لم يتبدد، وأنه قائم في النفوس وفي ثنايا الحركة الاجتماعية، بما هو تحرك مدني غير حزبي وليس مؤدلجاً، ولا يرتبط بالخارج، ويلتزم التزاماً تاماً بالمنهج السلمي، ويعزز الوحدة الوطنية بإحياء كل ما هو جامع ومشترك بين الناس، ويرمي إلى تحقيق إصلاح شامل. ولا شك في أن هناك متضررين من هذه الموجة، وهناك من يتربص بها، وهناك من حاول اختطافها والالتفاف عليها، وهناك أيضاً من وصف هذا الربيع بالخريف خالطاً بين الوجهة السليمة المدنية له، وبين بعض المآلات التي فرضت عليه من خارجه. ويستذكر المرء أن الأنظمة العربية التي لم تواجه موجة الربيع بالحديد والنار، هي التي أفادت من هذه الموجة بتجديد أقدمت عليه من داخلها. والمأمول الآن بل المتوقع أن تستفيد الدولة اللبنانية من هذه الموجة، بتجديد شامل لبنية الحكم وفي إطار من التوافق الوطني.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"