مأساة تلف الأمة

05:35 صباحا
قراءة 3 دقائق

يبدو قطاع غزة ونحن في مطلع العام التاسع من القرن الجديد، وكأنه يمثل في وسط خارطة الوطن العربي، الحيز الجغرافي والبشري والسياسي، الذي يلخص كل ملامح اللحظة التاريخية الراهنة من حياة العرب ما بين محيطهم وخليجهم.

قد يرى البعض في هذا الكلام تشبيهاً غير دقيق، أو تشبيها يلفه الخطأ من كل جوانبه، على أساس أن ليس في الوطن العربي اليوم، بقعة تشبه في بؤسها السياسي والاجتماعي قطاع غزة. لكن من يضع جانباً قشور الحياة السياسية والاجتماعية العربية في اللحظة التاريخية الراهنة، ويغوص إلى أعماق هذه الحياة، تحت سطح المظاهر الخادعة للحياة الاستهلاكية الفارغة من أي قيمة غير القدرة الشرائية الرجراجة، يشعر أن الوطن العربي، خصوصاً بعيون أبنائه المخلصين الذين ما زالت قيم كالكرامة الوطنية والشخصية تعني لهم كل حياتهم، ما هو إلا صورة طبق الأصل عن قطاع غزة، مكبرة لتشمل تلك المساحات الشاسعة المنداحة بين محيطنا وخليجنا.

صورة قد تبدو للوهلة الأولى غير معقولة، لكنها أكثر معقولية مما يجري منذ أشهر (بل منذ سنوات) في قطاع غزة، على يدي إسرائيل المحكومة بالعنصرية الصهيونية الاستيطانية، ومن ورائها كل الأنظمة السياسية في أوروبا وأمريكا، من حصار للإرادة المقاومة وإرادة الحياة لدى شعب فلسطين المشرد منذ العام ،1948 من دون أن يحرك ذلك ساكناً، يتجاوز قرار أنفار معدودة على أصابع اليدين، من المجتمع المدني هنا وهناك، بخرق معنوي لهذا الحصار ببواخر تحمل النزر اليسير من الأدوية والأغذية، تسمح لها إسرائيل بالمرور، امعاناً في مواصلة لعبة الخداع حتى نهايتها، بادعاء التعامل بإنسانية مع قطاع غزة، ومع كل من يريد التعبير عن تعاطفه مع هذا القطاع.

إنها المأساة عينها إذاً، تلف الوطن العربي بأسره، كما تلف قطاع غزة. وتبدو إسرائيل اليوم قادرة على محاصرة الوطن العربي بأسره سياسياً، كما تحاصر قطاع غزة، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإنسانياً.

إن ذروة المفارقة في هذه المأساة، أن يبدو الكيان الإسرائيلي بعد ستين عاماً من قيامه، قبيل الانتخابات النيابية الوشيكة، في ذروة ميله إلى الحركات السياسية التي تجسد الميل الأقصى إلى يمين مفاهيم الحركة الصهيونية العنصرية الاستيطانية، بينما تبدو الدول العربية، بشكلها العام، أقرب إلى مجموعة من الكيانات السياسية فاقدة البوصلة السياسية كلياً، فيما يتعلق بحاضرها ومستقبلها، تاركة للدولة التي تجسد حالياً أقصى درجات التطرف اليميني في التعبير عن الحركة الصهيونية إسرائيل، أن تنجز حلمها التاريخي (الذي كان يبدو مستحيلاً في بدايته، حتى في عيون أنصاره) بالتحول إلى الكيان السياسي الوحيد في المنطقة، الذي يتمتع بإرادة سياسية واضحة ونافذة، لحاضر المنطقة ومستقبلها، ويعمل كل ما في وسعه، محلياً ودولياً، لتحويل هذه الإرادة السياسية إلى واقع يتحكم بتشكيل الحياة في هذه المنطقة من العالم.

لولا مظاهر الرفاهية الاستهلاكية المتفشية في بعض أرجاء الوطن العربي، لبدت لنا صورة الواقع العربي العام إذاً على حقيقتها محاصرة بالإرادة السياسية الصهيونية (المدعومة دولياً)، تفرض نفسها في محيطها القريب، كما في محيطها الأوسع، تشبهاً بالصواريخ عابرة القارات.

لكل ذلك، لا يبدو غريباً ذلك المشهد المأساوي الذي تحاصر فيه الحركة الصهيونية عرب غزة، مجتمعاً وأفراداً، سياسياً ومعيشياً، في كل يوم جديد، بينما العالم العربي الواسع، المحيط بقطاع غزة وبفلسطين المحتلة كلها، لا ينبري لمقارعة جدية لهذا الحصار، بل نسمع حججاً وتبريرات يومية، توضع كلها تحت شعار العين بصيرة، واليد قصيرة.

ليست هي اليد القصيرة، بل انعدام الإرادة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"