خيارات محدودة لمواجهة الركود

04:25 صباحا
قراءة 4 دقائق

تبدو البنوك المركزية الرئيسية في العالم وكأنها أفرغت ما في جعبتها من أسلحة الاجراءات النقدية لمواجهة الازمة الاقتصادية العالمية . وبدرت اشارات بالفعل من البنك المركزي الاوروبي بأنه قد لا يلجأ الى خفض الفائدة مجددا قريبا، على الرغم من التوقعات باستمرار وتعمق الركود الاقتصادي العالمي . وكانت البنوك المركزية للدول الكبرى خفضت أسعار الفائدة، بشكل منسق، في الشهرين الاخيرين بمعدلات كبيرة لمواجهة تبعات الازمة المالية العالمية وما صاحبها من ركود اقتصادي .

فمنذ بداية اكتوبر/تشرين الأول الماضي خفض البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة في دول اليورو بمعدل 75 .1 نقطة مئوية لتصل نسبة الفائدة الآن الى 5 .2 في المائة، وهي أدنى فائدة منذ انشاء البنك الاوروبي واطلاق العملة الاوروبية الموحدة . ومنذ مطلع الشهر الماضي خفض بنك انجلترا (المركزي البريطاني) نسبة الفائدة بمعدل 5 .2 نقطة مئوية لتصل الى 2 في المائة، وهو ادنى مستوى لأسعار الفائدة في بريطانيا في نصف قرن تقريبا . بالطبع كان الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الامريكي رائداً في خفض اسعار الفائدة مع بدء الأزمة الاقتصادية في امريكا ومعاناة الاقتصاد الامريكي اكثر من غيره . وخفض الاحتياطي أسعار الفائدة الامريكية بمعدل 25 .3 نقطة مئوية لتصل الى واحد في المائة الآن .

وكما كان متوقعا على نطاق واسع، لم تفلح السياسات النقدية في الحد من تبعات الازمة الاقتصادية العالمية . وعلى الرغم من ان البنوك المركزية والحكومات في الاقتصادات الرئيسية ضخت دفعات هائلة من السيولة النقدية في القطاع المالي والمصرفي الا ان ذلك ايضا لم يكن كافيا لاستعادة الثقة في مستقبل الاقتصاد العالمي، على الأقل في المدى القصير . صحيح ان تلك الاجراءات النقدية والمالية خففت الى حد ما من الازمة التي كان يمكن لولاها ان تفضي الى انهيار النظام المالي العالمي تماما، لكنها ظلت قاصرة في ضوء حدة دورة الركود الحالية .

ومع نهاية المرحلة الحرجة من الازمة ودخولها في طور الحالة المزمنة نوعا ما، بدأ البعض بالفعل في مناقشة حكمة تلك الاجراءات النقدية والمالية على الرغم من الاعتراف بأهميتها وضرورتها في حينها . فبالنسبة للسياسة النقدية، أصبحت البنوك المركزية في الاقتصادات الرئيسية في وضع لا يسمح لها بالمناورة بعد تلك التخفيضات الكبيرة في أسعار الفائدة . ومع أن الهدف الأساسي من السياسة النقدية هو ضبط معدلات التضخم فإن تلك التخفيضات كانت مدفوعة اساسا بالتخوف من الانهيار الاقتصادي وهدفت الى تسهيل حل ازمة الانكماش الائتماني وتنشيط الاسواق والاعمال . ومع ان التوقعات قوية بتراجع معدلات التضخم المرتفعة في غالبية الاقتصادات الكبرى، الا ان ذلك التراجع لن يكون الا بقدر يعوض تلك التخفيضات في اسعار الفائدة أكثر مما يسمح للبنوك المركزية بهامش مناورة واسع .

أما بالنسبة لضخ الاموال في البنوك والمؤسسات المالية وغيرها من الشركات المتعثرة في قطاعات الاقتصاد الاخرى، فيبدو انها حتى الآن لم تؤت الأثر المأمول تماما . وفي ظل ركود اقتصادي طويل الامد نسبيا واعمق من دورات الركود السابقة يتوقع ان تفشل شركات ومؤسسات من بين تلك التي تم اقالتها من عثرتها بأموال الميزانيات العامة . وفي تلك الحالة، يكون العبء مضاعفا على حسابات الحكومات وعجز الميزانيات العامة .

ويشكل عجز الميزانيات في الاقتصادات الرئيسية، نتيجة الاقتراض العام لتمويل حزم الانقاذ المالي للمؤسسات الخاسرة وزيادة الانفاق العام لتنشيط الاقتصاد، مشكلة كبرى ستتبدى آثارها الخطيرة مستقبلا على المديين المتوسط والطويل . وعبر رئيس البنك المركزي الاوروبي جان كلود تريشيه في مقابلة صحافية أخيراً عن مخاوفه من الآثار السلبية لموجة الاقتراض الكبيرة حاليا . والواقع ان الاقتراض الحكومي غالبا ما يصبح ضرورة في فترات الركود الاقتصادي نتيجة تراجع موارد الخزينة العامة من عائدات الضرائب والرسوم مع تباطؤ النشاط الاقتصادي والاضطرار لاستمرار الانفاق العام للحيلولة دون الكساد التام . الا ان حملات الانقاذ للشركات والمؤسسات المتعثرة ومحاولة مساعدة القطاع المالي على التعافي اضطرت الحكومات الى اقتراض ادى الى زيادة كبيرة في عجز الميزانية يتجاوز حدود ما يسمح به الحفاظ على الاستقرار المالي والاقتصادي .

ومن شأن ذلك في حد ذاته ان يقلل من الثقة في الاقتصاد المعني، بما يؤدي الى نتائج سلبية قد تعادل النتائج الايجابية الآنية المتوقعة من الاقتراض لتنشيط الاقتصاد . ولنأخذ بريطانيا كمثال، حيث أدى الاقتراض الحكومي الى زيادة عجز الميزانية بنسبة كبيرة يتوقع ان تصل الى 8 في المائة العام المقبل . واذا كانت دول اليورو حددت نسبة 3 في المائة عجزا في الميزانية كحد اقصى ضمن سياسة الاستقرار الاقتصادي الاوروبية فإن بريطانيا وان كانت ليست ضمن مجموعة اليورو الا انه يتم قياس وضع اقتصادها على اساس المعايير الأوروبية في الأسواق العالمية . وكانت نتيجة الدين الهائل وزيادة العجز ان اخذ الجنيه الاسترليني في الهبوط الى مستويات غير مسبوقة امام العملات الرئيسية . وذلك دليل على فقدان الثقة في الاقتصاد البريطاني وقدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها المتضاعفة . وهذا ما حدث مع الاقتصاد الامريكي وكان أحد أسباب عمق أزمته الحالية، مع تضاعف الدين العام وزيادة عجز الميزانية بشدة .

ومع تواتر المؤشرات السلبية على اداء الاقتصادات الرئيسية، والاقتصاد العالمي ككل، تبدو السلطات النقدية والمالية في وضع من لا يملك خيارات كثيرة لمواجهة الركود الحالي .

* محلل اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"