بين المشروع الصهيوني والتسوية التاريخية

05:44 صباحا
قراءة 3 دقائق

إن من يلقي نظرة شاملة على حقيقة المواقف الاسرائيلية من مسألة ايجاد تسوية تاريخية للصراع العربي - الاسرائيلي، منذ بداية الصراع وحتى مراحله الراهنة، يكتشف أن اسرائيل، بكل تياراتها السياسية والاجتماعية، لم تكن في يوم من الايام مهتمة بالبحث عن تسوية تاريخية للصراع، لكن اهتمامها كان دائما (وما زال) ينصرف إلى موقع آخر تماما، هو مطاردة أي بؤرة عربية يمكن اعتبارها متشددة في التمسك بالحقوق التاريخية لعرب فلسطين، ومحاولة ضرب هذه البؤرة بشتى الوسائل العسكرية والسياسية والدبلوماسية، أو تحييدها عن المجرى الاساسي للصراع.

هذا هو التاريخ الحقيقي للسلوك الاسرائيلي منذ جمال عبد الناصر، وحتى يومنا هذا. ما يفسر لنا الموقف الاسرائيلي الاخير من المبادرة العربية، الذي اكتشف امكانية الافادة الاسرائيلية من هذه المبادرة، ليس لايجاد تسوية تاريخية بالمعنى الموضوعي للتسوية، بل لغرض آخر تماماً، هو محاولة التفاهم مع معسكر الاعتدال العربي للتغلب على التشدد الذي تعتقد اسرائيل انه متمثل في السلوك السياسي لكل من سوريا وحماس وحزب الله، وهو التشدد الذي تعتبره اسرائيل مشكلتها الاخيرة المتبقية، بعد توقيع مصر اتفاقية كامب دافيد، وتوقيع الاردن اتفاقية وادي عربة، واصطفاف كل الدول العربية المهمة في مجموعة ما يطلق عليه اسم دول الاعتدال العربي.

يلفت النظر في الموقف الاسرائيلي الاخير من المبادرة العربية، انها بدّلت اسمها، بحيث اصبح المبادرة السعودية، ولم يكن هذا التبديل سهوا أو خطأ في التعبير، لكنه يعبر تماما عن المعنى الذي اشرنا اليه في مطلع هذا المقال.

ومع ذلك، فان اسرائيل يومها (بزعامة شارون) سخرت من المبادرة، وقامت بسلسلة تصرفات سياسية وعسكرية لتقول للعرب: انتم تحلمون بتسوية، لا قدرة لكم على انجازها، أما أنا فأفرض عمليا شروط التسوية كما تلائمني.

لذلك، فعندما تعرب المصادر الاسرائيلية اليوم عن اهتمامها بالمبادرة السعودية، فإنها تعرف ماذا تقول بالتحديد، وتعني بالضبط المبادرة العربية، محذوفا منها بند حق العودة للفلسطينيين.

ولأن اسرائيل مهتمة في النهاية بالقضاء على أي تمسك عربي واضح بحقوق واضحة، فإننا نسمع عن اهتمام آخر في الاوساط العليا لوزارة الخارجية الاسرائيلية، بدراسة امكانية عقد معاهدة عدم اعتداء طويلة الامد مع لبنان، تمهيدا للفصل النهائي والتام بين الملفات الثلاثة المتبقية في الصراع: اللبناني، والسوري، والفلسطيني.

في حين اننا اذا فتحنا ملف التسوية التاريخية العادلة والمتوازنة للصراع العربي- الاسرائيلي، فإن هذه التسوية تشترط أول ما تشترط، انه حتى لو أدت التطورات السياسية والعسكرية في الصراع، إلى أن تصبح فلسطين بكامل مساحتها التاريخية (بما في ذلك الضفة الغربية وغزة) تحمل اسم اسرائيل، فان ذلك لا يجب ولا يجوز أن يحرم سكان فلسطين الاصليين الذين تقذف بهم الاحداث العسكرية المتلاحقة خارج تلك الحدود، من حق العودة إلى بلدهم الاصلي، مهما كان التحول الذي طرأ على اسمه. هكذا تنص المواثيق الدولية كلها، وهذا هو بالضبط مضمون القرار 194.

لكن التسوية التاريخية العادلة في واد، ومساعي اسرائيل في واد آخر.

لقد حققت اسرائيل حتى الآن أول اهدافها الكبيرة في تفكيك الاجماع العربي في المسيرة التاريخية للصراع العربي- الاسرائيلي، بقي لها تحقيق هدفين آخرين:

ضرب أو عزل أو تحييد ما تعتبره اسرائيل بؤر التشدد العربي في التمسك بالحقوق الاساسية، كاملة غير منقوصة.

افراغ أي مشروع للتسوية من شبهة الحقوق التاريخية الاساسية لعرب فلسطين، والعصب الحساس والعمود الفقري في هذه الحقوق يبقى حق العودة.

لكن بين ما هو محق وعادل، وبين مسيرة الاحداث على أرض الواقع، بون شاسع، يصعب تخيل قدرتنا في وقت قريب على اجتيازه.

اقل ما يجب الآن، أن نعرف المصير الذي يمكن أن تأخذنا اليه أي خطوة ناقصة في تسوية مشوهة. إن أي طرف عربي اساسي في الصراع، اذا تنازل (باسم التسوية المزعومة) عن حق العودة للفلسطينيين، يكون سائراً في طريق استكمال المشروع الصهيوني الخاص بفلسطين، وليس في طريق التسوية التاريخية العادلة، للصراع العربي الاسرائيلي.

ان حق العودة (قبل أي حق آخر)، هو الحد الفاصل بين المشروع الصهيوني والتسوية التاريخية المحتملة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"