الدعم في الخليج

00:37 صباحا
قراءة 4 دقائق

كثرت في الآونة الأخيرة التحليلات والتعليقات في الصحافة الاقتصادية الغربية حول ما تراه مشكلة في السياسات النقدية للاقتصادات الخليجية، ضمن اقتصادات الدول الرئيسية المصدرة للطاقة في العالم . واستندت أغلب تلك التحليلات إلى توصيات من صندوق النقد الدولي لدول مجلس التعاون الخليجي بضرورة "ضبط حسابات ميزانياتها عبر إعادة النظر في سياسات الدعم، خاصة دعم الوقود" . ورغم أنه من غير الممكن اللجوء إلى "حالة إنكار" للقول إن الدعم الحكومي في دول الخليج ليس مشكلة، إلا أنه من المنصف أيضاً الإشارة إلى أنه لا يشكل أزمة بالنسبة لميزانيات تلك الدول ولا حتى لمن يوصف بأنه "اختلالات هيكلية" في سياساتها الاقتصادية .
من المهم بداية الإشارة إلى أن الدعم المباشر في أغلب دول الخليج يظل في حدود النسب العادية دولياً، أي ما بين 3 و5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي . لكن تظل هناك مشكلة في الدعم غير المباشر، الذي يصل في بعض الدول إلى عدة أضعاف نسبة الدعم المباشر . ورغم أن تقديرات صندوق النقد الدولي تضع العجز في ميزانيات دول الخليج عند نسبة كبيرة تقترب من 10 في المئة، إلا أن هناك تبايناً بين دول المنطقة، إذ تحقق ميزانيات بعضها فائضاً وليس عجزاً . كما أن أغلب الدول الأخرى تشهد ميزانياتها عجزاً نتيجة زيادة الإنفاق الاستثماري، الذي وإن كان تضاعف في مشروعات بنية أساسية ولتنشيط القطاع الخاص وتوفير فرص عمل للمواطنين فإن له مردوداً بعيد الأمد - مردوداً اقتصادياً وليس اجتماعياً/سياسياً فحسب .
ربما كان الأدق هنا هو التفكير في إعادة هيكلة الدعم، بما يضمن استمرار دعم السلع والخدمات الأساسية كالصحة والتعليم مع تقليل عبء ذلك على الميزانية العامة لدول المنطقة . وهنا أهمية برامج رفع الكفاءة وزيادة القيمة مقابل ثبات الكلفة، وهذا ما بدأت بعض دول الخليج - وفي مقدمتها الإمارات - باعتماده، وإن كان بوتيرة ليست بالكافية حتى الآن . أما الدعم غير المباشر، كما تفعل بعض الدول بطريقة تشجع مواطنيها على الاعتماد المطرد على الدولة في تغطية حتى مجازفاتهم المالية، فهذا بحاجة إلى إعادة نظر . كما أن دعم الوقود بحاجة أيضاً إلى ترشيد، أكثر منه إلى تخفيض . وربما تكون البداية الأفضل بتنسيق سياسات دعم الوقود بين دول المنطقة بما يقلل (أو يلغي) الفارق بين أسعار الوقود في تلك الدول، ليس للحد من تهريب الوقود في ما بينها فحسب بل أيضاً للقضاء على المقارنات بين المواطنين (وهي غير اقتصادية إطلاقاً، إنما لها دلالات اجتماعية) .
لذا، كان وزير النفط العماني محمد بن حمد الرمحي محقاً حين تحدث في مؤتمر عن النفط والغاز في أبوظبي مؤخراً عن ضرورة اتخاذ إجراءات لترشيد استهلاك الطاقة في دول الخليج . وبغض النظر عما إذا كان الوزير العماني لمح إلى إمكانية رفع أسعار الوقود أم لا، فإن سياسات السلطة في ما يتعلق بالدعم بدأت في منحى الترشيد برفع أسعار الطاقة للمصانع والأعمال (وهو دعم غير مباشر) مؤخراً . وكان الوزير العماني الأكثر صراحة حتى الآن في تعرضه لمسألة دعم الطاقة مشيراً إلى أن منطقة الخليج تهدر كميات كبيرة من الطاقة، وأن استهلاكها أصبح يشكل تهديداً ومشكلة خطرة مضيفاً أن "الدعم أصبح المشكلة الكبيرة وأن دول المنطقة بحاجة إلى زيادة أسعار البنزين والكهرباء" .
لكن مشكلة أسعار الطاقة ليست بأهم أسباب أي اختلالات في السياسات الاقتصادية والنقدية الخليجية، إضافة إلى أهمية تنويع اقتصاداتها، وهو ما بدأت به بالفعل أغلب دولها بزيادة نصيب قطاعات الاقتصاد الأخرى مقابل قطاع الطاقة، هناك بعض السياسات التي تحتاج إلى إعادة نظر . وهنا نشير إلى الخطوة التي أعلنتها الكويت قبل أسابيع عن نيتها تشكيل لجنة خاصة لمراجعة دعم السلع والخدمات الذي يكلفها أكثر من 5 .4 مليار دينار (9 .15 مليار دولار) سنوياً . وتعد الكويت نموذجاً لسياسات الإنفاق الاجتماعي الاستثنائية في المنطقة، إذ تنفق عليها ما يقارب ربع الميزانية العامة (نسبة 22 في المئة تقريباً) . وتلك السياسات بحاجة إلى ترشيد بالفعل، وربما تكون إعادة توجيه الأموال لتنشيط القطاع الخاص مع اشتراط أن يوفر فرص عمل للقوى العاملة الوطنية، طريقة أفضل للإنفاق الاجتماعي هذا .
تبقى مسألة في غاية الأهمية، وهي أن سياسات الدعم والإنفاق الاجتماعي في دول الخليج تمثل سياسة راسخة تعتمد توزيع ثروة البلاد بين مواطنيها - وهذا ما قد لا يرى البعض من خبراء المؤسسات الدولية والمحللين الغربيين منطقاً اقتصادياً فيه . لكنه يظل ركيزة أساسية لتماسك مجتمعات دول المنطقة واستقرار أوضاعها بما يكفل تطورها ونموها الاقتصادي . وإذا كان البعض يحاجج بأن سياسات الإنفاق الاجتماعي تلك هي رد على انتفاضات بعض شعوب المنطقة على حكامها، فتلك حجة واهية تماماً، لأن تلك السياسات تعود لعقود طويلة مضت ومنذ بدأت تلك الدول تصدير الطاقة بكثافة . بل إن الحديث في السنوات الأخيرة عن "ترشيد" الدعم المباشر وغير المباشر يعد رداً بالنقيض على تلك الحجة، والقصد منه هو ضبط السياسات المالية والاقتصادية دون المساس بالبعد الاجتماعي الذي يعتمد توزيع الثروة على أبناء البلد . ولعل نماذج الاستثمار في البشر في أغلب دول المنطقة، والذي بدأ يؤتي أكله الآن، لدليل على أن تلك السياسات الاقتصادية ذات البعد الاجتماعي هي الأمثل لدول المنطقة، حتى لو لم تتفق كثيراً مع نماذج التنمية لصندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات العالمية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"