لا نمو من دون استثمارات

01:33 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. لويس حبيقة

مشكلة اقتصادات أمس أن الاستثمارات لم تعد تأتي كالسابق بكميات كبيرة وفي كل الأوقات. الأزمات المالية الحاصلة في الغرب تؤخر العمليات الاستثمارية. الفساد الحاصل في كل الدول يعيق التقدم ويمنع المستثمرين من رؤية الفرص المحتملة بشكل واضح. الإرهاب والعنف والقتل والإجرام الذي يضرب كل الدول والمدن يضع الأهداف الاستثمارية في مراتب أدنى من الأمن والاستقرار الضروريين للحياة. الفساد الحاصل في كل القطاعات والدول، وخاصة مؤخراً بشكل علني في الرياضة يقتل براءة المنافسات التي من المفروض أن ترتكز فقط على الكفاءة والتحضير والجهوزية. كانت تحصل ثورات كبيرة عظيمة في الماضي تغير حكومات وأنظمة دون نقطة دم واحدة كالثورة التشيكية مع «فاكلاف هافل» مثلاً. أما اليوم فنعيش في تخبط دولي معالمه غير واضحة واتجاهاته غير معروفة ومستقبله لا يدعو إلى الارتياح والاطمئنان. فعلاً يمر العالم اليوم، كل العالم، في ظروف لا يحسد عليها.
يقول الاقتصادي «لاري سامرز» إن الاقتصاد الدولي سيبقى كما هو عليه اليوم لسنوات طويلة أي بطيء لأسباب أربعة: ارتفاع الادخار العالمي وبالتالي عدم انتقال هذه الأموال إلى القطاع الاستثماري، تدني نسبة النمو السكانية وارتفاع نسبة المسنين في المجتمعات مما ينعكس سلباً على الاستثمارات الجديدة، تخبط واضح بل ربما تراجع في التغير التكنولوجي وبالتالي في الإنتاجية وأخيراً تدني قيمة السلع الاستثمارية في الناتج المحلي. يوافق معظم الاقتصاديين الدوليين «سامرز» على توقعاته بل يضيفون إن ما يحصل اليوم هو واضح وسيستمر وبالتالي إنها ليست مرحلة انتقالية بل دائمة، مما ينعكس سلباً على النمو والبطالة طويلة الأمد.
علمت الأزمات المالية المستثمرين أن يتنبهوا لأموالهم، أين يضعونها وفي أي وقت ودولة وبالتالي تطول فترة الانتظار قبل اتخاذ القرارات. تحقيق النمو اليوم أصبح أصعب بكثير من الماضي لأن عدد ونوعية الأفكار الجديدة قلَّت وبالتالي من أين يأتي هذا النمو؟ هنالك كتاب مهم للاقتصادي «روبرت غوردن» عن النمو الأمريكي يقول فيه إن فترة المئة سنة بين 1870 و1970 كانت سنوات الثورة الاقتصادية التي لم تتجدد في السنوات المئة التي تلت وربما لن تتكرر مستقبلاً. غيرت فترة 1870 وما بعدها الحياة كما لم يحصل من قبل. كان التأثير ضخماً ليس فقط في الاستثمارات وإنما في طريقة الحياة والمعيشة والاستهلاك، كل ذلك بفضل التجدد والابتكارات وطرق الإنتاج الحديثة والتكنولوجيا.
أما فترة ما بعد 1970، فكانت في رأي «غوردن» مخيبة للآمال وباهتة اللون بسبب تداخل عوامل سلبية مهمة لم تكن موجودة من قبل، أهمها ارتفاع فجوة الدخل بين الشعوب، ضعف مستويات التعليم وعدم استفادة الجميع من الحد الأدنى منه، التغير الديمغرافي الكبير داخل الدول وفيما بينها، وارتفاع نسب الدين من الناتج في أكثرية دول العالم. الفارق الأساسي الإضافي هو ضعف تأثير عمليات التجدد والابتكار في الحياة مقارنة بما كان يحصل سابقاً أي ما قبل سنة 1970. يقارن «غوردن» نسب النمو بين فترتي (1920- 2014) و(2015 -2040) التي يبني عليها توقعاته العلمية تبعاً لما يمكن أن يتبين له منذ الآن. تشير كل الأرقام إلى انحدار نسب النمو والتقدم إلى أقل من النصف بين الفترتين مما ينعكس سلباً على مستوى الدخل والأجور والإنتاجية والبطالة. ينهي «غوردن» دراسته بالقول إنه مهما تقدمت العلوم لا يمكن نسخ تجربة 1870- 1970 الفريدة ليس فقط في أمريكا وإنما عالمياً.
هنالك دولتان فريدتان اليوم في جذب الاستثمارات إليهما أي الصين والهند. في فترة 2011- 2015، بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى الهند 190 مليار دولار مقارنة ب 123 مليار إلى الصين. استفاد قطاع النقل من الاستثمارات في الهند وثم الإلكترونيات والحواسب والمعلوماتية بالإضافة إلى قطاع التكنولوجيا البيئية. أما الاستثمارات في الصين، فاستفادت منها القطاعات الثلاثة السابقة أيضاً لكن بترتيب مختلف بل معاكس. في آسيا بعد الهند والصين، توجهت الاستثمارات إلى إندونيسيا وفيتنام وباكستان. في المنطقة العربية في سنة 2015، حصلت مصر على المرتبة الأولى وثم السعودية والإمارات والمغرب وجميعها اقتصادات كبيرة نسبياً. يقول «جوزيف ستيغليتز» إن هنالك عوامل عديدة توثر في توجهات الاستثمارات الأجنبية المباشرة. لا شك أن المخاطر مهمة لكن العائد مهم أيضاً. مشاريع خطرة ذات عائد محتمل كبير تكون جاذبة للاستثمارات، ربما أكثر من مشاريع ذات مخاطر متدنية مع عائد خفيف. طالما أن المخاطر مغطاة بالعائد الكافي، تكون جاذبة تبعاً لأوضاع المستثمرين من أشخاص وشركات ومؤسسات وصناديق وغيرها. في رأي «ستيغليتز، العوامل العامة المهمة من ناحية جذب الاستثمارات هي فجوة الدخل التي تؤثر مباشرة في الاستقرار الاجتماعي وبالتالي السياسي. لماذا نسبة الدين العام من الناتج هي مشكلة استثمارية كبيرة تبعاً للاقتصاديين الكبيرين «غوردن» و«ستيغليتز»؟
أولاً: ارتفاع نسبة الدين تعني ارتفاع خدمته وبالتالي هنالك حاجة مع الوقت لزيادة الضرائب لتمويل هذه الخدمة. يؤثر هذا الواقع في فعالية الاقتصاد أي يضيف تكلفة لا يمكن تبريرها من ناحيتي التقدم والإنتاجية وإنما تكلفة مجانية.
ثانياً: الاستدانة من الخارج أصبحت عملياً حالة أكثرية الدول. عندها تذهب خدمة الدين العام أو قسم منها إلى الخارج يتأثر سلباً مستوى المعيشة الداخلي. ارتفاع الدين العام مضر خاصة إذا مول مشاريع استهلاكية وليس استثمارية.
ثالثاً: وجود دين عام مرتفع يقيد حرية الحكومة عندما تحتاج إلى زيادة الإنفاق لتمويل حاجات عامة مستجدة. هذا ما حصل في أكثرية الدول الأوروبية التي استدانت كثيراً واضطرت إلى القيام بالتقشف القاسي لأنها لم تعد قادرة على الاستمرار في الإنفاق والاستدانة إلى ما لا حدود.
رابعاً: عندما يرتفع الدين العام ويزداد الاقتراض من الخارج والداخل، ترتفع الفوائد وتضيق فرص الاستدانة أمام القطاع الخاص كما ترتفع تكلفتها. ارتفاع الدين العام يؤثر سلباً في نمو القطاع الخاص وازدهاره وبالتالي في البطالة والنمو.
أخيراً، تعاني الصين اليوم ضعف نسب النمو التي وصلت إلى 6%.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"