الجغرافيا تحدد هوية الاقتصاد

03:04 صباحا
قراءة 4 دقائق
للجغرافيا تأثير كبير في خصائص بل هوية الاقتصاد، فهي تحدد إلى حد بعيد تنوع الإنتاج وبالتالي مستقبل الاقتصاد.
للجغرافيا تأثير كبير في عقل الإنسان وثقافته، وهذا ما نلاحظه عندما نقارن بين تصرفات سكان دول ذات مزايا جغرافية مختلفة بل متناقضة. الإنسان الآتي من الجزر كالبريطاني هو غير الآتي من الأرض كالإيطالي أو من الدول المقفلة كالسويسري، وهذا واضح في العقلية والممارسة السياسية وطريقة العيش بما فيها نوعية الطعام. من الضروري على الجامعات ومعاهد البحوث أن تركز على «الجغرافيا الاقتصادية» أو «الاقتصاد الجغرافي» في التعليم والبحوث والدراسات. من الضروري أيضاً أن تمنح جائزة نوبل للاقتصاد مستقبلاً للباحثين الكبار في هذا المضمار. ما يدعو للعجب أن الإنسان اكتشف الفضاء بعمق وتفاصيل أكبر من اكتشافه للمحيطات المائية بالرغم من سهولة الوصول إلى المضمار الثاني نسبياً. نحو 95% من أعماق المحيطات ما زال مجهولاً من قبل الإنسان لأسباب تقنية ومالية وربما نفسية. لا شك أن دولاً قليلة قامت باكتشاف الفضاء، ومن الممكن للدول الأخرى حتى النامية محاولة اكتشاف المحيطات بسبب الثروات الكبرى الموجودة في أعماقها من نفط وغاز ومعادن وربما مفاجآت كبيرة لا نستطيع توقعها اليوم.
لا ننكر أن للتكنولوجيا دوراً كبيراً في تخطي الحاجز الجغرافي المهم. استطاعت أن تحقق تواصل الإنسان بين الدول والقارات وبالتالي تخطت الحدود الجغرافية. استطاعت التكنولوجيا عبر الاتصالات والنقل والمعلوماتية أن تؤمن وصول السلع والخدمات المختلفة إلى كل بقاع الأرض. بالرغم من كل هذا التقدم التكنولوجي المدهش، ما زالت الاقتصادات والمجتمعات مرتبطة إلى حد كبير بمزايا الجغرافيا الوطنية، تماماً كما هو الحال مثلاً مع الدول النفطية التي تبقى أوضاعها مرتبطة بسعر السلعة وتقلباتها. في الحروب مثلاً، لم يكن ممكناً إجراؤها عبر المسافات والمحيطات والقارات، فأتى سلاح الجو ليلغي المسافات ويسمح لدول بشن حروب عبر آلاف الأميال فتسبب الأذى دون الحاجة لنقل الجنود والأعتدة. فالحروب الجوية غيرت قواعد اللعبة تماماً، كما فعلت الإنترنت من نواح أخرى لا تقل خطورة وأهمية بالنسبة لحياة الإنسان والمجتمعات والاقتصاد.
هنالك أمثلة عدة على قوة الجغرافيا وتأثيرها في هوية بل مستقبل الدول، وبالتالي تفسر إلى حد بعيد كيفية تحرك حكوماتها ومصالحهم. في روسيا مثلاً، حيث المساحة تبلغ 17 مليون كلم2 وتمر عبرها 11 منطقة توقيت مختلفة، فهي الدولة الأكبر في العالم أي توازي ضعفي مساحة كل من الصين والولايات المتحدة و5 أضعاف مساحة الهند و 25 مرة مساحة بريطانيا. تعتمد روسيا إلى حد بعيد على إنتاج النفط والغاز أي الجغرافيا، وهي تؤمن 25% من الطلب الأوروبي على السلعتين. تبيعهما بأسعار مخفضة للأصدقاء في الغرب كفنلندا مما يشير مجدداً إلى ترابط المصالح الاقتصادية بالسياسية.
واقع روسيا الجغرافي بالإضافة إلى عامل القوة منع كل من نابليون من احتلالها في سنة 1812 وهتلر في سنة 1941. عدد السكان يقارب 145 مليون علماً أن 75% من الأرض تقع في آسيا و22% من السكان يعيشون في القارة الآسيوية. ما تحتاج إليه روسيا هي المياه الدافئة، وبالتالي يفسر هذا الواقع إلى حد كبير موضوع احتلال شبه جزيرة «القرم» ليس فقط لأسباب سكانية وإنما لأسباب اقتصادية استراتيجية.هذا يفسر أيضاً وجود الروس في طرطوس ليس لأسباب أمنية فقط وإنما اقتصادية يسمح لهم بالاستفادة من مياه المتوسط الدافئة. لا شك أن من مصلحة روسيا تنويع اقتصادها نحو القطاعات الأخرى، وهي قادرة على ذلك علمياً وتقنياً ومالياً خاصة وأنها تعاني مشكلتين أساسيتين هما النمو السكاني السلبي أي انخفاض عدد السكان من سنة إلى أخرى كما العمر المرتقب المنخفض في حدود معدل 70 سنة أو 64 سنة للرجال و76 سنة للنساء.
لا شك أن المنطقة العربية مرتبطة إلى حد بعيد بالبتروكيماويات والمحروقات إنتاجاً واستهلاكاً كما في التحويلات. لم تنجح المنطقة في تخفيف ثقل الجغرافيا في الاقتصاد الذي بقي مرتبطاً بها.هنالك دول مجلس التعاون الخليجي حيث تؤثر الإيرادات النفطية جذرياً في النمو والاستثمارات والمشاريع بل تغير الجو العام. كذلك الأمر بالنسبة إلى الدول التي تستفيد من تحويلات العاملين في الدول النفطية، وبالتالي عندما تخف هذه التحويلات تتأثر الاقتصادات سلباً ومباشرة بالوضع كما هو الحال بالنسبة للبنان والأردن ومصر وغيرها. الجغرافيا العربية ليست كلها نفطية، بل هنالك أراض خصبة ومياه غزيرة وشعوب قادرة على العمل في الصناعة لكن النتائج حتى اليوم لم تصبح بمستوى الطموحات.في الصين، هنالك مشاكل كبرى مرتبطة بالجغرافيا وعدم رغبة الحكومة الصينية التنازل عن مناطق احتلتها أو صادرتها أو تعتبرها جزءاً منها. موضوع «التيبت» معروف جداً بحد ذاته وعبر نشاطات «الدالاي لاما» الذي يحاول تسويق استقلال بلاده في دول القرار. تقول الصين إن الهند ستحتل «التيبت» اذا تركتها، وبالتالي لن تعطيها الاستقلال. أما تايوان فتقع على بعد 140 كلم من الشاطئ الصيني ويمكن للصين احتلالها لولا الوجود العسكري الأمريكي في المحيط. لذا تستعمل الصين الدبلوماسية الهادئة بل الناعمة، أي مثلاً التجارة والسياحة والاستثمارات في علاقتها مع تايوان بانتظار الفرصة السانحة أي بعد أن تقوي جيشها وخاصة قوتها البحرية خلال العقود القليلة الماضية.لا شك أن الصين محاصرة جغرافياً بدول حليفة لأمريكا خاصة في الممر النفطي بحيث تشعر الصين دائماً أنها غير قادرة على المواجهة الجدية مع الغرب وخاصة مع الولايات المتحدة. لذا تتوسع الصين اقتصادياً ونفوذاً في إفريقيا حيث توظف الاستثمارات والخبراء، منها إنشاء خط سكك حديد في «كينيا» بين «نايروبي» و«مومباسا» بتكلفة 14 مليار دولار يخفف وقت السفر من 36 إلى 8 ساعات. الاستثمار في الاقتصاد يعني مع الوقت استثماراً في السياسة والنفوذ توظفه الصين في الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات والمؤسسات الدولية.

لويس حبيقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"