تنشيط التجارة الدولية لتحفيز النمو

05:01 صباحا
قراءة 5 دقائق

لا يمكن تحقيق النمو من دون تواصل سلعي ومالي مع الخارج . العودة الى الانغلاق مضرة حتى في فترات أزمات وضيق . كي تكون التجارة الدولية مفيدة الى أقصى الحدود، لا بد من دعمها بسياسات مالية ونقدية وسعر صرف مناسبة يعزز الفوائد . سعر الصرف الاصطناعي أي المحدد إدارياً يضر بالاقتصاد، كان مرتفعاً أو منخفضاً . لا بد من اعتماد سعر السوق مع حق المصرف المركزي بالتدخل لمنع التقلبات المرتفعة . في الواقع كل الاقتصاديين منذ أدام سميث مؤسس العلوم الاقتصادية يجمعون على أن فوائد التجارة الدولية كبيرة جدا . لذا يجمعون على رفض الحمايات إلا في ظروف استثنائية محدودة ومعلنة . فالحمايات تعزز مصالح مجموعات داخل الدولة على حساب مجموعات أخرى، وبالتالي تضر بالاقتصاد العام . هنالك مصالح داخل الاقتصاد تسعى الى تغيير السياسات العامة لمصلحتها حتى على حساب مصلحة الوطن . الخاسرون الأكبر من سياسات الحماية والدعم والانغلاق هم المستهلكون وخاصة الفقراء منهم الذين يدفعون عندها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أسعارا أعلى لسلعهم المعيشية . يكون المستهلك ضحية الانغلاق، وبالتالي لا بد من رفض هذه السياسات منطقيا ولمصلحة الاقتصاد .

هنالك خوف حاصل اليوم بشأن تأثير الانفتاح على الاستقرار والعكس هو الصحيح، أي ان الانفتاح الواعي والمدروس والمراقب هو الذي يمنع الأزمات ويحمي الاقتصاد . نتيجة لأزمة 2008 المستمرة وبسبب الخوف، تحصل أخطاء جدية ومقلقة بشأن دور التجارة الدولية في تحقيق البحبوحة للجميع . لا تحل مشكلة العجز التجاري عبر الاقفال أو الانغلاق، بل عبر السياسات المنفتحة التي تعزز دور القطاع الخاص وخاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة، كما تشجع على الادخار والاستثمار . الاستيراد ليس سيئاً بالضرورة، اذ يشير إلى تحسن الأوضاع الاستهلاكية في الاقتصاد، كما أن من أهداف التصدير الرئيسة الحصول على النقد النادر الذي يسمح بشراء الواردات . من فوائد الواردات تعزيز المنافسة الداخلية مع الشركات المحلية التي تحاول أحيانا تثبيت احتكارها لسلع أو خدمات معينة . من هذه الأوهام الرائجة ما يلي:

أولاً: الأفضليات المقارنة لم تعد موجودة وبالتالي لا يحمي الاقتصاد الا الانغلاق وهذا خاطئ جدا . الأفضليات المقارنة موجودة وهي تميز الاقتصادات وتجعل التجارة الدولية مفيدة الى أقصى الحدود . تسمح التجارة الدولية للدول النامية والناشئة بالحصول على التكنولوجيا المتطورة مقابل تصدير سلعها الزراعية بأسعار مفضلة . ما يميز ألمانيا هي صناعاتها وسويسرا هي خدماتها وفرنسا زراعتها وهلم جرا . على الحكومات أن تساعد الأفضليات المقارنة الناتجة عن الثروة البشرية والمادية على الظهور بقوة، وبالتالي تفيد الاقتصاد كما الشعوب .

ثانياً: الاقتصاد يتضرر اذا نمت التجارة الدولية أكثر من نمو الاقتصاد العام . هذا خاطئ أيضاً وناتج عن الخوف غير المبرر من نمو التجارة الدولية من دون انقطاع منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم باستثناء سنة 2009 . نمو التجارة يساعد على نمو الاقتصاد، إذ يشير إلى فتح الأسواق أمام التبادل كما الاستثمارات التي تخلق بدورها النمو وتحارب البطالة .

ثالثاً: مشاكل ميزان الحساب الجاري ناتجة عن التجارة الدولية وبالتالي يجب معالجتها عبر تعديل السياسات التجارية المعتمدة، وهذا خاطئ أيضا إذ إن ميزان الحساب الجاري يرتبط بأكثر بكثير من التجارة كالمناخ الاستثماري العام الذي يشجع على الانتاج . فالصادرات بحد ذاتها كما الواردات بحجمها وتوزعها مرتبطتان بما ننتج في الداخل وبالسياسات التسويقية المدعومة من القطاع العام . لا يمكن حل مشكلة عجز ميزان الحساب الجاري عبر سياسات تجارية، بل أن المشكلة أكبر بكثير وترتبط بعمق الاقتصاد ونضوجه ونوعية الادارة العامة .

رابعاً: العلاقة السلبية بين التجارة الدولية من جهة وفرص العمل والأوضاع الاجتماعية من جهة أخرى، وهذا مقلق بل في غاية الخطورة . هنالك من يعتقد ان التجارة الدولية وخاصة الاستيراد يقلل فرص العمل في الداخل وبالتالي يهدد الاستقرار الاجتماعي، لذا فالانغلاق يحميه ويضرب البطالة . في الحقيقة تشير كل الدراسات الى العلاقة الايجابية بين التجارة في الاتجاهين ودرجة النمو . لكن هذا لا يعني ان السياسات الاقتصادية العامة غير مهمة، بل ان حسن تحديدها يحفز التجارة الدولية ويقويها لمصلحة الاقتصاد .

خامساً: لأن سبب الأزمة المالية الدولية كان ضعف الرقابة والجشع وسوء القوانين والإجراءات المعتمدة، لذا يتهم الانفتاح التجاري بالتسبب بالمشكلة . الموضوعان مختلفان والانفتاح التجاري منفصل كليا عن التحرير الاقتصادي الداخلي والدولي . الانفتاح التجاري لا يعني سوء رقابة السلع والخدمات وترك رؤوس الأموال تتحرك دون رقابة . هنالك مؤسسات وطنية واقليمية ودولية تعنى بالاستقرار المالي والنقدي وفي مقدمها صندوق النقد والمصارف المركزية كما المؤسسات والمصارف الاقليمية . الانفتاح التجاري يصبح أفضل وأنفع في ظل الرقابة المالية والنقدية الضرورية في كل الأوقات .

التجارة الدولية هي حقا في خطر اليوم ليس فقط بسبب الأوهام المذكورة أعلاه، وانما أيضا بسبب عدم الوصول الى اتفاق دولي جديد بشأنها كما بسبب تفاقم الاتفاقات التجارية الاقليمية التي تمنع عمليا حصول اتفاق دولي بسبب تمييزها بين دولة وأخرى تبعا لموقعها الجغرافي . ما هي التحديات التي تواجه التقدم في تعزيز التجارة الدولية؟

أولاً: دور منظمة التجارة العالمية التي أسست في سنة 1995 والتي هدفت الى الاتفاق على جولة جديدة من المفاوضات . لم تستطع الوصول الى هدفها بالرغم من 12 سنة من المفاوضات الرسمية الشاقة . ها هي تنتقل هذا الصيف الى ادارة جديدة ربما تستطيع وضع أفكار خلاقة تنجح مع الوقت اذا حسنت النوايا .

ثانياً: البدء في المفاوضات في شأن الاتفاق التجاري بين أوروبا والولايات المتحدة . الاتفاقات الثنائية أو الاقليمية تكون حاجزاً أمام الاتفاقات الدولية حتى لو تمت بين فريقين كبيرين . يبلغ حجم التجارة بين أوروبا والولايات المتحدة نصف التجارة الدولية، كما أن الاستثمارات المباشرة في الاتجاهين ضخمة .

ثالثاً: حقوق العمال وحمايتها في الظروف الصعبة، حيث يكون العامل دائما الضحية الأولى عند تعثر الأوضاع فيصرف، كما يكون المستفيد الأخير عندما تتحسن الأمور حيث لا يحصل إلا على جزء قليل من الأرباح الإضافية الكبيرة . لا يهمنا فقط الموضوع المالي أي الأجور، إنما أيضاً وخاصة موضوع الحقوق من نواحي عدد ساعات العمل والإجازات والمنافع الإضافية وحقوق التقاعد العادلة وغيرها التي لا تحترم في معظم الدول النامية والناشئة . يعاني العامل أحياناً سوء المعاملة في شروط وظروف العمل وهذا سيئ جداً .

رابعاً: حماية البيئة التي تكون عموماً في آخر أولويات الدول النامية والناشئة . البيئة هي المستقبل أي حياة الأجيال الصاعدة التي لها الحق في الحصول على حياة نظيفة خالية من الأمراض وتسمح لهم بالعيش النوعي . حصل النمو الاقتصادي في العقود الماضية على حساب البيئة من ناحية التلوث المضر للصحة . لم تنجح اتفاقات البيئة في الوصول الى أهدافها ومازال المجتمع الدولي يدور في الفراغ . النمو الأخضر هو المطلوب اليوم لكن من يطبقه؟

خامساً: للانغلاق التجاري مساوئ كبيرة منها إحداث حروب تجارية بين المجموعات الاقتصادية . لن تقبل أي دولة وضع حواجز على صادراتها دون أن تضع هي نفسها حواجز ضد صادرات الغير . الحروب التجارية مضرة للجميع، ولحسن الحظ تسعى كل المجموعات الكبيرة الى تجنبها بما فيها الصين والولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"