الرأسمالية: العبرة في التطبيق

02:35 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. لويس حبيقة

هنالك أنظمة سياسية اقتصادية متعددة، والآراء تختلف حول الأفضل بينها. حتى ضمن النظام الرأسمالي مثلاً المرتكز على مبادئ ثلاثة هي: الملكية الفردية وحرية العقود وسيادة القانون، هنالك أوجه عدة مختلفة لهذا النظام، أي أن الفارق كبير بين النظام السويدي والأمريكي، أو بين البريطاني والسويسري.
هنالك أيضاً أنظمة تمزج بين الرأسمالي والاشتراكي، أو بين الفردي والتعاوني وغيرها أيضاً.
لم يعط أي من الأنظمة نتائج فضلى لمصلحة الطبقات الوسطى وما دون، بالرغم من تطبيقها لسنوات.
هنالك تقصير وفساد وسوء أداء وهدر دون شك، وهذا يؤثر كثيراً في النتائج.
قال «المهاتما غاندي» إن الفارق بين ما نفعله وبين ما نحن قادرون على تحقيقه يمكن أن يضع حلولاً لمعظم مشاكل العالم.
هذا هو حال النظام الرأسمالي الذي يعتبر مثالياً في المبادئ من دون أن ينجح في التطبيق، إذ خلق طبقة واسعة من الفقراء وسمح للفاسدين بالازدهار على حساب العمال وقطاع الأعمال الشريفة.
من أبرز الكتب التي تبين مساوئ الرأسمالية هو للاقتصادي «توماس بيكيتي» عن «النظام الرأسمالي في القرن الواحد والعشرين» الذي يبين فيه الفجوة الكبرى في الدخل والثروة التي تحققت نتيجة الممارسات الرأسمالية الخاطئة على مدى عقود.
إلا أن الفجوة في الدخل ليست النتيجة الوحيدة السيئة للنظام الرأسمالي، وهذا ما تجنب «بيكيتي» الخوض به، لأنه فضّل التركيز على موضوعي الدخل والثروة.
قال «آدم سميث» مؤسس النظام الاقتصادي الحر إنه «لا يمكن لأي مجتمع أن يفرح ويزدهر إذا كان القسم الأكبر منه بائساً وفقيراً». لا شك أن الفقر هو أحد أسوأ أوجه المجتمعات الحديثة والذي يصعب مواجهته حتى بأحدث الوسائل والتقنيات العلمية.
هنالك اليوم ما يقرب 5 إلى 7 مليارات فقير في العالم، أكثريتهم في الدول النامية لكنهم موجودون في كل الدول.
في الولايات المتحدة مثلاً في التسعينات، قدرت نسبة الفقراء ب 11%. في سنة 2008 مع بداية الأزمة المالية، كانت نسبة الفقراء الأمريكيين 13,2% وارتفعت إلى 16% في السنوات القليلة التي تلتها.
قال الرئيس (الأمريكي) ريغان «خضنا لسنوات حرباً ضروساً ضد الفقر، لكن الأخير انتصر علينا». هنالك واقع مرير هو أن الإنتاجية لا ترتفع بل تسقط أحياناً بالرغم من كل الاكتشافات والاختراعات العلمية.
في الولايات المتحدة، انخفضت الإنتاجية بنسبة 0,5% في الفصل الماضي ، ما يؤثر سلباً في البحبوحة الاقتصادية وأوضاع الفقراء والعمال.
النتيجة مفاجئة، إذ كيف يمكن للإنتاجية أن تنخفض في وقت تزدهر خلاله قطاعات الاتصالات والتكنولوجيا والمعلوماتية وغيرها؟ لا يمكن محاربة الفقر وتخفيف فجوة الدخل، من دون رفع مستوى إنتاجية العامل والطالب والفقير.
يمكن أن تكون الإيجابية عبر نوعية التكنولوجيا التي يستثمر فيها اليوم، أي عدم الاستثمار في الصناعات الثقيلة التي أنتجت الثورة الصناعية وعدم بناء معامل وماكينات صناعية حديثة بل الاكتفاء بالتكنولوجيا المساعدة للاستهلاك والإنفاق وليس للإنتاج.
أسباب الفقر عديدة لكن أهمها سوء التعليم، وبالتالي عدم القدرة على دخول أسواق العمل الحديثة التنافسية.
هنالك المشكلة الصحية التي تخفف من إنتاجية الفقراء، وتجعل من الفاتورة الصحية الفردية والعامة مرتفعة جداً.
هنالك مجتمعات تنتج فقراء كتلك التي تنتشر فيها المخدرات والممنوعات ، التي تؤثر في عقل وإنتاجية المواطن.
هنالك مجتمعات تكثر فيها الجرائم الأخلاقية والأمنية والتي تمنع عملياً على الأفراد التقدم والتطور وخوض سوق العمل والإنتاج.
هنالك التكاثر السكاني في المدن وارتفاع نسب الإنجاب وسوء تربية ومعاملة الأطفال، وبالتالي انتشار أحياء البؤس والظلام والفقر، وهذا ما تكلم عنه «تشارلز ديكينز» في سنة 1838 في كتابه «أوليفر تويست». حاولت الأمم المتحدة منذ القرن التاسع عشر إدارة برامج لمكافحة الفقر ووضعت أهدافاً عملية رقمية للنجاح.
لم تكن النتائج بمستوى الطموحات، وبالتالي تتجدد هذه الأهداف اليوم ربما بمعايير أكثر واقعية من السابق.
عندما نقول إن الرأسمالية لم تعط العالم النتائج المرجوة أو الجيدة، فهل هذا يعني أن كل النتائج سيئة، وأنه ليس هنالك أمثلة بل دروس ناجحة في كل أنحاء العالم؟ العكس صحيح:
أولاً: بولندا التي لم تعرف الازدهار إلا عندما انتقلت من النظام الشيوعي تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي السابق إلى النظام الاقتصادي الحر.
هي الاقتصاد الأوروبي الأكبر بين تلك التي انتقلت من الاشتراكية إلى الرأسمالية، وهي الاقتصاد السادس في الحجم بين دول الوحدة الأوروبية. حقق اقتصادها نمواً قوياً منذ سنة 1992.
اعتمد نجاح بولندا على إدارة ممتازة كفوءة للاقتصاد ورغبة أكيدة في النجاح هدفت إلى تحقيق النمو دون فرض التقشف القاسي، كما فعلت الدول الأخرى وفي مقدمتها اليونان.
أصبح المستوى المعيشي البولوني قريباً جداً من أفضل المستويات الأوروبية.
المطلوب الاستمرار في الإصلاحات في سوق العمل والحفاظ على تنافسية سعر صرف النقد، والاستثمار في التكنولوجيا والتدريب والتعليم.
ثانياً: فيتنام حيث أنقذ الملايين من الفقر بفضل الاستثمارات والانفتاح الاقتصادي المتواصل.
90 مليون مواطن واجهوا الفقر بعد الحروب الكبيرة التي خاضوها خلال عشرات السنوات.
نجح الفيتناميون في تنويع الاقتصاد وركزوا على التعليم للتطور والإنقاذ.
وقعوا اتفاقية التجارة الجديدة مع 11 دولة أخرى بما فيها الولايات المتحدة، والتي من المفترض أن تنقل فيتنام إلى مستويات جديدة عالية.
حقق الاقتصاد نمواً يقارب 6% سنوياً منذ سنة 2012 مع بطالة منخفضة قدرها 2,5%. هنالك عجز في الموازنة لكن الدين العام مازال في حدود 50% من الناتج.
ثالثاً: روسيا التي تقلب اقتصادها كثيراً نتيجة السياسة وأسعار النفط.
تأثر الاقتصاد أخيراً سلباً بالعقوبات الغربية بعد الحرب مع أوكرانيا وبسقوط أسعار النفط ،كما بسبب الفساد المنتشر في السياسة والإدارة.
انحدرت الإيرادات النفطية الحكومية من 200 مليار دولار في سنة 2014 إلى 80 مليار دولار اليوم أي هناك عجز في الموازنة.
بين سنتي 1999 و2008، نما الاقتصاد الروسي بنسبة سنوية قدرها 7% أي تضاعف حجم الاقتصاد خلال 9 سنوات.
أخيراً، بالرغم من أن النظام الاقتصادي الرأسمالي لم يعط النتائج المتوقعة منه، إلا أن الأمثلة الإيجابية الناجحة متوافرة وعديدة، وترتكز أولاً على حسن إدارة الدولة والذكاء في تسويق الاقتصاد لهدفي الصادرات والاستثمارات.
العبرة إذاً تكمن في حسن التطبيق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"