هل تستفيق اليابان من غفوتها؟

04:57 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

قال الاقتصادي الكبير «سيمون كوزنيتز» إن هنالك 4 أنواع من الدول في العالم: المتقدمة، النامية، الأرجنتين واليابان، ما يشير إلى أن الوضعين الياباني والأرجنتيني مختلفين عن كل العالم ويحتاجان إلى تحليل منفرد. كانت اليابان منذ منتصف القرن الماضي، أي بعد الحرب العالمية الثانية، مضرب مثل في النجاح والتفوق وحسن الإدارة العامة في كل القطاعات. لعبت وزارة الصناعة دوراً كبيراً في التوجيه والدعم والتمويل، وكانت النتائج مدهشة. كانت شركاتها معروفة بالجودة والنوعية والأسعار المناسبة. سيطرت اليابان على معظم الأسواق الصناعية العالمية، ولم تكن تنافسها عملياً إلا ألمانيا. أما الزراعة فكانت مزيجاً من الإنتاجية التقليدية والتقنيات الجديدة. وتضرر الاقتصاد الياباني نتيجة سوء الإدارة وعدم تجدد الطبقة السياسية والحزبية التي بقيت حاكمة لعقود طويلة.

وانخفضت الإنتاجية اليابانية المتفوقة بسرعة من السبعينات حتى اليوم، بالرغم من أن اليابانيين لا يأخذون العطل كما هو الحال في الغرب. بين 1970 و1990، نمت إنتاجية عوامل الإنتاج اليابانية سنوياً بنسبة 1,37% مقارنة ب0,75% للولايات المتحدة و2,07% لكوريا الجنوبية. وبين سنتي 2007 و2011، نمت الإنتاجية اليابانية سنويا ب0,33% فقط مقارنة ب0,46% في الولايات المتحدة و1,51% في كوريا. وأكثر العوامل المتضررة هي انخفاض نمو إنتاجية العمل من إيجابي إلى سلبي، وما تنتج عنه من نوعية سلع متدنية لم تشهدها اليابان من قبل. نمو إنتاجية رأس المال انخفض كثيراً في الدول الثلاث، إلا أن النسب بقيت إيجابية وهذا مهم جداً. المقارنة مع الولايات المتحدة تصح أكثر من المقارنة مع كوريا لأن الأولى هي في نفس درجات التطور والنضوج، أما الثانية فالمقارنة معها مهمة أيضا بسبب الوضع الآسيوي وتقارب العقليات والمصالح والتاريخ. النشاط الابداعي والتجديدي في اليابان انخفض إلى مستويات لم يشهدها المجتمع من قبل، ربما بسبب البحبوحة والاكتفاء المادي. فالوضع الإنتاجي الياباني لا يحسد عليه، وهنالك أمل اليوم في النهوض مع الرئيس «شينزو آبي» عبر سياساته الواعية التي يمكن أن تنقذ الاقتصاد إذا أحسن التنفيذ.

بلغ النمو الياباني 4,7% في سنة 2010 وانخفض إلى مستويات سلبية فيما بعد، وعاد إلى الإيجابي السنة الماضية مع 0,8%. من يقول إن الميزان التجاري الياباني يمكن أن يكون سلبياً بعد نتيجة إيجابية واضحة في سنة 2010. تحققت النتيجة السلبية بسبب انخفاض الصادرات بدءاً من سنة 2013 بعد الصدمات النوعية الكبيرة التي حصلت في صناعة السيارات التي كانت تعتبر لؤلؤة الصناعة والإنتاج اليابانيين. هل مقبول أن تنتج اليابان سيارات لا تتمتع بمعايير السلامة التي هي أبسط الشروط وعلى الأقل ملزمة؟ عجز الموازنة كبير في حدود 7% في سنة 2014 ما يدفع بالدين العام إلى التراكم إلى حدود لا تعرفها أي دولة أخرى. وصلت نسبة الدين العام من الناتج السنة الماضية إلى 246% وهي خطرة حتى لو وصل الاحتياطي النقدي إلى 1231 مليار دولار في سنة 2014 من دون الذهب.
تحتاج اليابان إلى تحقيق نمو قوي كي تعالج مشكلة الدين العام، حتى لو نتج عنه تضخم قوي. يمكن وصف أوضاع الاقتصاد الياباني اليوم بالراكد، علماً بأن التضخم منخفض في حدود 0,7% السنة الماضية، وهذا ما دفع بالمصرف المركزي إلى تخفيض الفائدة الأساسية إلى مستوى سلبي تشجيعاً للاستثمارات. نسبة البطالة معقولة في حدود 3,7% ولم ترتفع فوق 5% حتى في أسواء الظروف. لم ينجح «أبي» حتى الآن في إنقاذ اليابان، علما بأن برنامجه يتمتع بالتكامل والواقعية. ما هي ركائز برنامجه الثلاثة؟ ولماذا لم يعط بعد النتائج المتوخاة بالرغم من أنه خلق أجواء إيجابية غابت عن اليابان لعقود خلت؟
أولاً: تحفيز السياسة النقدية، وهذا ما فعله بالنسبة للفائدة كي تنشط الاستثمارات ويتحقق بعض التضخم الذي يخفف من القيمة الحقيقية للدين العام.
ثانياً: القيام بإصلاحات هيكلية وصولاً إلى تحسين ترتيب اليابان في مؤشر سهولة الأعمال الذي يصدره سنوياً البنك الدولي، من المرتبة 15 إلى 3 وهذا تحد كبير، خاصة أن الدول الأخرى ليست نائمة وتتفرج. لذا قررت الحكومة تخفيض النسبة الضرائبية على أرباح الشركات من 32,11% إلى 29,97% تشجيعاً لها.
ثالثاً: زيادة الإنفاق لتنشيط الاقتصاد، وهو ما يجب أن تفعله كل دولة تعاني التباطؤ أو الركود. لذا قررت الحكومة إنفاق 3500 مليار ين في الاقتصاد أو 0,7% من الناتج، منها 1800 مليار عبر القنوات التالية: زيادة المساعدات المقدمة إلى الأسر كي تنفق بدورها، زيادة المساعدات للشركات الصغيرة والمتوسطة، وزيادة المساعدات إلى سكان الريف ومناطقهم كي تتحسن أوضاعهم ويقومون بالإنفاق المطلوب. كما قامت الحكومة بإنفاق 1700 مليار ين على منطقة «توهوكو» التي عانت الكارثة النووية في سنة 2001 أو حادثة فوكوشيما. كيف يتم التمويل؟ عبر بعض الزيادات الضرائبية والوفر في بعض أقسام الإنفاق العام. ورفعت الحكومة نسبة الضريبة على القيمة المضافة من 5% إلى 8% في نيسان 2014 وكان من المقرر رفع النسبة إلى 10% لكنه تأجل إلى ما بعد نيسان 2017. من القرارات المهمة التي من المنتظر أن تتخذها الحكومة هذه السنة هي رفع الأجور بنسبة 2,4% كي يتحسن وضع العمال وينفقوا على السلع والخدمات. يقول الاقتصاديان «بلانشار» و«بوزن» إن على اليابان رفع الأجور بنسبة 10% كي تحرك الطلب الداخلي على السلع والخدمات وبالتالي الإنتاج والنمو.
ما هي العوائق الأساسية أمام هذه السياسات والتي تعرقل مسيرة حكومة «آبي» أو أي حكومة في المستقبل؟

أولاً: النمو السكاني الكارثي، أي انخفاض سنوي بمعدل 0,13% نتيجة القلق على تربية الأولاد والتكلفة المرتفعة التي يخشى الأهل منها. ينعم اليابانيون بمستوى معيشة مرتفع، أي ناتج فردي قدره 37 ألف دولار مع نظام صحي متكامل، إضافة إلى أمن فريد، ونسبة جرائم معدومة، وثقافة حية وحيوية فريدة من نوعها. وترغب الحكومة في محاولة رفع نسبة الإنجاب إلى 1,8 في سنة 2030 و2,07 في سنة 2040 حتى يبقى عدد السكان في حدود 102 مليون في سنة 2060. 40% من الشعب الياباني اليوم هو فوق ال 64 من العمر، وما يعنيه ذلك بالنسبة لليد العاملة وتكلفة التقاعد. إذا كانت المشكلة السكانية هي من أهم المشكلات المستقبلية التي تعانيها اليابان، أي توافر اليد العاملة، فلماذا لا تستقطب قسماً من المهاجرين من منطقتنا أو من مناطق أخرى، هي بحاجة إلى هذه القدرات الشابة التي تغامر بحياتها للهجرة، علماً بأن عدد الأجانب الذين يسكنون في اليابان لا يتعدون 2,17 مليون شخص، أي أقل من 2% من السكان؟ تحتاج اليابان إلى 10 ملايين شخص إضافي لمصلحة الاقتصاد، أو ما يعادل استقدام 250 ألف شخص سنوياً خلال السنوات ال50 المقبلة. الحل موجود ويظهر أن اليابانيين لا يرغبون في استقدام المهاجرين، ليس بسبب الأمن فقط، وإنما لأنهم غير مستعدين بعد للتخفيف من الرفاهية التي ينعمون بها.

ثانياً: تسهيل عمليات الاستثمار والأعمال، وهذا يتطلب إصلاحات كبيرة في القوانين والإجراءات، إضافة إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية. النموذج الياباني المعروف كان صالحاً لزمن النمو القوي، ويجب إعادة النظر فيه اليوم. فالنمو الخفيف، أو السلبي، مع انخفاض العمالة بسبب انخفاض السكان يعني أن اليابانيين لا يستطيعون تسديد الإنفاق الذين اعتادوا عليه. ما الأفضل؟ زيادة العمالة أم تخفيف الرفاهية؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"