ثقافة الزحام

04:17 صباحا
قراءة 4 دقائق

ثقافة الزحام يعرفها المصريون جيدًا في دولة تعاني مشكلة سكانية مزمنة، ولقد كنت أتحدث في إحدى المحاضرات عام 2010 فقلت إن عدد السكان في مصر قد تضاعف في عصر الرئيس مبارك، فقام أحد الشباب الحاضرين وقال إن المشكلة ليست في معدل زيادة السكان ولكنها طول مدة رئاسة الرئيس! وضجت القاعة يومها بالضحك، وأيقنت في أعماقي أن ما قاله ذلك الشاب لا يخالف الحقيقة .

إنني أريد أن أدخل من المشكلة السكانية التي نعانيها إلى فهم الآثار السلبية لثقافة الزحام التي نعيشها، بل إنني أزعم أن معظم مشكلاتنا في التعليم والصحة والإسكان ونصيب الفرد المحتمل من المياه مع تدهور المرافق عموماً، بل والبطالة والجريمة المنظمة وحالة الاكتئاب العام، إنما تعود في مجملها إلى ما نطلق عليه ثقافة الزحام، فالأعداد كبيرة والفرص قليلة، وإذا كان مؤرخ الجغرافيا العظيم د . جمال حمدان قد تحدث عن مصر الزمان والمكان والسكان فإن ذلك يقودنا بالضرورة إلى فهم أبعاد المشكلة السكانية التي تعدّ ثقافة الزحام أبرز مظاهرها، لذلك دعنا نتأمل الملاحظات الآتية:

* أولاً: إن السؤال المطروح هو، هل تتحدد قيمة الدولة بحجم سكانها أو أن المسألة أبعد من ذلك وأعمق؟ خصوصاً أنني أظن أنه قد استقر في العقل المصري منذ عدة عقود، أن المكانة الدولية والإقليمية لبلده مستمدة في معظمها من ضخامة الحجم السكاني مقارناً بالدول العربية الأخرى، وقد يكون ذلك صحيحاً، ولكنني أؤكد أن عدد السكان لا ينهض وحده دليلاً على قيمة الدولة ومكانتها، فهناك مقومات أخرى تتصل بحجم الناتج القومي ومعدل النمو السنوي، ومستوى التعليم وإنجازات البحث العلمي، فضلاً عن تأثير القوى الناعمة التي تملكها الدولة، وأحسب أن لمصر نصيباً منها .

* ثانياً: قال الرئيس الراحل عبد الناصر في إحدى خطبه موجهاً حديثه إلى الحسين بن طلال ملك الأردن الراحل، إنني أريدك أن تعرف أن عدد سكان الأردن (في منتصف ستينات القرن الماضي) يعادل عدد سكان شبرا أحد أحياء القاهرة! ولقد امتد هذا الزهو المصري بالحجم السكاني إلى الرئيس السادات أيضاً الذي لم يتورع عن وصف خصومه العرب بكلمة الأقزام، أما الرئيس السابق مبارك فعلى الرغم من حديثه المتكرر عن المشكلة السكانية ومخاطر انفجارها، فإنه تناولها من زاوية واحدة هي محاولة تحجيم عدد المواليد، وتلك خطيئة أخرى لم نتنبّه لها حتى الآن .

* ثالثاً: إن مواجهة الانفجار السكاني لا تكون بالتحكم في عدد المواليد فقط، ولكن تكون بتحويل الكم إلى كيف، أي الارتقاء بالإنسان المصري وتحسين نوعيته عن طريق التعليم والتدريب وكفالة الرعاية الصحية المناسبة، مع تقديس عنصر العمل باعتباره المورد الرئيس لنهضة الأمم ورقي الشعوب، كما يجب أن ندرك أن الزيادة السكانية في مصر قد تواكبت للأسف بانخفاض النوعية، فالأعداد الجديدة في معظمها تأتي من أسر محدودة الدخل وبيئات فقيرة قد لا تنال فرصة التعليم أو التدريب أو الرعاية الصحية، لذلك فإن القضية السكانية هي قضية تنموية بالدرجة الأولى . ولعل التجربة الصينية وإلى حد ما التجربة الهندية تكشفان لنا عن التفسير الدقيق لما نقول، فالزيادة السكانية ليست نقمة إلا على الشعوب التي لا تحترم قيمة العمل ولا تعظم معدلات الإنتاج، بينما هي نعمة بل وقيمة مضافة للشعوب الساعية بجدية والتزام نحو غايات واضحة وفقاً لرؤية متكاملة .

* رابعاً: إن ثقافة الزحام لا ترتبط بالمشكلة السكانية فقط، ولكن أيضاً بسوء التنظيم وقصور الإدارة وانهيار قيم احترام الآخر وغياب الشعور بهيبة الدولة، وتكفي نظرة واحدة على أحد شوارع بكين في ساعات الصباح الأولى لنرى ملايين الصينيين يسعون إلى أعمالهم في نظامٍ ودقة وترتيب يدعو إلى الإعجاب، لأن فقه الأولويات واضح لديهم، كما أن فهمهم للواجب يسبق غالباً مطالبتهم بالحقوق، فأين نحن من هذا؟ إن ثقافة الزحام ليست تعبيراً إنشائياً نلوكه في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها أغلى الأوطان، ولكنها تعبير عن الأزمة التي يعيشها الشعب المصري في العقود الأخيرة، فالفصول الدراسية مكدسة الأعداد، والمواصلات العامة شديدة الزحام، والمستشفيات لا تفي بحاجات المرضى سواء الحالات المزمنة أو الطارئة، كما أن المرور في شوارع العاصمة والمدن الكبرى مأساة لا تخفى على أحد، بل إنها تصيب القادمين إلينا أحياناً بشيء من الهلع .

* خامساً: إن استقراء التاريخ يوحي بأن الديكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية تولد أحياناً من رحم ثقافة الزحام، حتى ولو جاء ذلك تحت مسميات مهذبة من نوع المستبد العادل أو الرئيس الضرورة، فالزحام يولد طاقة من العنف بل ويضرب الديمقراطية في مقتل أحياناً . فباستثناء التجربة السياسية الهندية لا نكاد نشهد ديمقراطية كبرى في العالم النامي بهذا الحجم، عندما يتجه ما يقرب من سبعمئة مليون هندي لهم حق التصويت إلى صناديق الاقتراع على مدى ثلاثة شهور كاملة لانتخاب المجلسين الأدنى والأعلى في البرلمان الهندي (اللوك صابها) و(الراجا صابها)، فأين نحن من هذا؟ إن أربعين مليون ناخب أو ما يزيد قليلاً يصيبوننا بشيء من الذعر خشية سوء التنظيم وفوضى الإجراءات .

. . لقد أردت من هذه الملاحظات الخمس أن أنبه إلى مخاطر نظرية الأعداد الكبيرة في ظل الموارد المحدودة، وما ينجم عنها من تداعيات تصيب السكان، وتهز قيم الإنسان، وتكاد تعبث بعبقرية الزمان والمكان! إنني ألفت النظر مخلصاً إلى ضرورة وجود مجلس أعلى للتخطيط القومي لا يقف عند حدود الأرقام والحسابات، ولا يضم المتخصصين في علوم الاقتصاد والمحاسبة وإدارة الأعمال فقط، بل يتجاوز ذلك إلى حشدٍ من العقول المصرية المتميزة في جميع التخصصات النظرية والتطبيقية للاتفاق على رؤية شاملة ونظرة متكاملة نصلح بها سوءات الحاضر ونقرأ معها تحديات المستقبل حتى نمضي على طريق الإصلاح الحقيقي . فالشارع يصنع الثورة ولكن النخبة هي التي تصنع النهضة، فليكفَّ الجميع عن محاولات الإقصاء والتهميش أو الاستبعاد والعبث بكفاءات أبناء مصر وبناتها من كل الاتجاهات السياسية أو المنطلقات الفكرية أو المعتقدات الدينية، فالوطن محتاج إلى العقول النيرة لأبنائه . . كل أبنائه
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"