مؤتمر الأديان والثقافات

04:56 صباحا
قراءة 4 دقائق

لا أتحمس كثيراً لما يسمى "حوار الأديان" ذلك أنني أرى أن "الحوار" يكون بين أتباع الديانات ولا يقوم أبداً على المقارنة بين النصوص المقدسة والجوانب الروحية للأديان المختلفة، فتلك قضايا تتصل بمفهوم الإيمان، وهو بطبيعته غير قابلٍ للنقاش والجدل، أما الثقافات فتلك قضية أخرى، لأنها تتصل بسلوك الجماعات البشرية وطرائق تفكيرهم وأنماط حياتهم، وكنت تلقيت دعوة منذ أعوام عدة لحضور "المؤتمر الأول لحوار الأديان والثقافات" في مدريد برئاسة الملكين عبدالله بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين، وخوان كارلوس ملك إسبانيا، وانعقدت جلسات ذلك المؤتمر في أحد القصور التاريخية بمدريد، وقد احتشدت في ذلك الاجتماع التأسيسي وفود من كل دول العالم تمثل أصحاب الديانات السماوية والديانات الأرضية أيضاً، وبالنسبة لمصر فقد كان الأزهر الشريف حاضراً بقوة وكذلك وزارة الأوقاف، إلى جانب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وباقي الطوائف المسيحية في مصر، ولقد تمخض ذلك الاجتماع الكبير عن ميلاد مركز الملك عبدالله لحوار الأديان والثقافات الذي اتخذ من العاصمة النمساوية فيينا مقراً دائماً حيث تشكلت له سكرتارية ثابتة يترأسها أمين عام سعودي الجنسية .
ولقد تلقيت دعوة من ذلك المركز في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 لحضور مؤتمره السنوي الكبير فهبطت العاصمة النمساوية التي عملت فيها سفيراً لبلادي في نهاية القرن الماضي لأجد رفاقاً مصريين يتقدمهم وكيل الأزهر الشريف ومستشار فضيلة المفتي وعدد من قيادات الكنائس يتقدمهم مطران "الكنيسة الأنجليكانية" بالشرق الأوسط وإفريقيا، وسط حشد غفير من رجال الدين من مختلف الديانات والطوائف: السنة والشيعة، الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، ورجال الديانتين الهندوسية والبوذية فضلاً عن عشرات الطوائف الفرعية الممثلة في ذلك المؤتمر الكبير . وقد شرفتني إدارة المؤتمر بأن أكون رئيساً لجلسة المائدة المستديرة الأساسية في اليوم الأول للمؤتمر وأن أترأس حلقة نقاشية عن الديانات والتعليم، ولي هنا عدد من الملاحظات على ذلك التجمع الإنساني في "عاصمة الموسيقى" حيث تلتقي الأديان وتتحاور الثقافات وتنصهر الحضارات:
أولاً: لقد برز في السنوات الأخيرة أكثر من طرحٍ يدور حول "حوار الأديان والثقافات"، ولعلنا نتذكر محاضرة الرئيس الإيراني الأسبق السيد محمد خاتمي، حول موضوع حوار الحضارات منذ أعوام عدة، وكيف أن الأمم المتحدة ذاتها قد احتضنت بعض هذه الأفكار الجديدة سواء بشكل مباشر أو عن طريق ذراعها الثقافية "اليونسكو"، كما أن حواراً آخر قد امتد لسنوات طويلة بين الإسلام والمسيحية عبر جسرٍ امتد من "الأزهر الشريف" في القاهرة إلى مقر بابا "الفاتيكان" في العاصمة الإيطالية، ولقد خضع ذلك الحوار لعمليات صعود وهبوط حتى خفت تأثيره في عهد البابا السابق بنديكت السادس عشر، نتيجة تطاوله بشكل غير مباشر على الإسلام ونبيه الكريم، فقام الأزهر الشريف بتجميد ذلك الحوار لعدة سنوات، ولعل الدكتور علي السمان يعرف أكثر حول ذلك الحوار الديني وما جرى له . ويهمني هنا أن أسجل أن الأزهر الشريف والكنيسة القبطية المصرية يمثلان معاً صرحاً يحوز التقدير والاحترام في الأوساط الدينية العالمية حيث يجسدان معاً جزءاً كبيراً من القوى الناعمة للدولة المصرية عبر القرون .
* ثانياً: إن دعوة مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز لحوار الأديان والثقافات لوفود تمثل الديانات الأرضية (آسيوية وإفريقية) هو انفتاح جديد على روح العصر ودياناته وثقافاته، فلم يعد الأمر قاصراً على الديانات الإبراهيمية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام بل اتسع الأفق ليشمل الديانات الأرضية وفي مقدمتها البوذية والهندوسية، لذلك كان مشهداً لافتاً للانتباه أن نرى على مائدة الطعام راهباً بوذياً يتحدث مع قسيس مسيحي ويشاركهما الطعام والحديث عالم أزهري، إنها روح العصر وإرادة الأمم وتعددية الحياة .
* ثالثاً: حفل مؤتمر فيينا لحوار الأديان والثقافات بعشرات المداخلات التي تبدو جديدة على الأسماع ومؤثرة في العقول، فالأديان إلى جانب قيمتها الروحية هي نسق ثقافي وتعبير حضاري خصوصاً بالنسبة إلى الديانات الآسيوية الكبرى التي تبدو أقرب إلى الفلسفات الذاتية منها إلى الطقوس الروحية،
وما زلت أتذكر من سنوات عملي في الهند حالة الصفاء
التي تصيب الرهبان "الهندوس" أو "البوذيين" عند بلوغ مرحلة الطرح الروحي الذي يؤجج المشاعر ويزرع الإيمان منذ ظهور الديانات البدائية في فجر التاريخ حتى وصل إخناتون المصري إلى فلسفة التوحيد، ثم نزول كلمة الله العليا إلى البشر باليهودية والمسيحية ثم الإسلام الذي حمل رسالته خاتم الأنبياء .
* رابعاً: أن تأتي هذه المبادرة من المملكة العربية السعودية ومن خادم الحرمين الشريفين فإن فيها رداً بليغاً على كثير من الدعاوى والتخرصات التي تحاول أن تنال من الإسلام، ولعل آخرها ما أقدم عليه بعض الحمقى في دولة أنجولا بالحديث عن اجتثاث الإسلام من أرضهم، وأنا أتساءل هنا أين المجتمع الدولي بكل دياناته من هذا التصرف المستفز؟ إن مجرد إنكار الهولوكوست أو التلويح من بعيد بما يمس السامية تقوم له الدنيا ولا تقعد، فما بالنا بالموقف الأنجولي الذي يعتبر عدواناً صريحاً على مشاعر مليار ونصف المليار نسمة من المسلمين ومليارات من أتباع الديانات الأخرى المتعاطفين معهم لأن من ينكر ديناً بذاته فهو يسيء إلى الديانات كافة، وحتى لو أنكرت السلطات الرسمية الأنجولية ما جرى إلا أننا نؤكد أنه لا دخان بغير نار .
* خامساً: إن دور الأزهر الشريف تحديداً يجب أن يكون موضع تقدير من العالمين العربي والإسلامي لأنه ينشر التسامح ويبشر بالدين الصحيح، ويدعو إلى الاعتدال ويقاوم الغلو والتطرف مهما كان مصدره، وأظن أن الأزهر والكنيسة القبطية يقفان معاً في خندق واحد ضد موجات التطرف ونزعات الإلحاد ومحاولات الإساءة إلى رسالات السماء أو حتى ديانات الأرض، فتلك هي حرية العقيدة التي يجب أن ندافع عنها حتى الرمق الأخير من حياتنا، إذ إن الإيمان هو قضية نسبية يختلف من دين لآخر بل ومن شخص لشخص، ولكن تبقى القيمة الحقيقية في الانتصار للحرية والتمسك بالحق وإقرار العدل، وإذا كان الآخرون يرمون الإسلام بافتراءاتٍ عن التعصب والتشدد ورفض الآخر، فإن ذلك يدعونا إلى نفض الغبار عن الوجه العظيم والصورة السمحاء للإسلام الحنيف .
هذه أفكار وخواطر ألوكها مع القارئ بعد مشاركتي في مؤتمر عن حوار الأديان والثقافات حيث عدت منه وأنا أشد تسامحاً مع الغير، وأكثر قبولاً للآخر، وأقوى رفضاً للعنصرية البغضاء والتعصب المقيت .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"