حوار العصر: مأزق الوطنية المصرية

05:00 صباحا
قراءة 5 دقائق

لم يتبلور الموقف الحقيقي للوطنية المصرية إلا مع ميلاد الدولة المدنية الحديثة التي تعتبر الحملة الفرنسية دافع ظهورها المباشر، بينما يبقى محمد علي مؤسسها سواء تم ذلك بوعيٍ منه أو رغماً عنه ولقد ظلت الحركة الوطنية المصرية دينية الطابع إسلامية الشخصية حتى إنه عندما سحب الباب العالي دعمه لأحمد عرابي انفض مؤيدوه من حوله، وعندما ارتفع صوت مصطفى كامل كان مدعوماً من الأستانة. فمباركة الخلافة كانت شرطاً لمشروعية الحركة الوطنية المصرية وسنداً لها إلى أن ارتفع شعار مصر للمصريين في غمار الثورة الشعبية عام ،1919 فكان ذلك إيذاناً بالميلاد الحقيقي للوطنية المصرية الخالصة التي ارتبطت بتيارٍ مصري لا يخلو من مسحة ليبرالية ولا يبرأ من بعض مظاهر العلمانية التي توجتها شعارات الوحدة الوطنية، ولقد تجسدت هذه المعاني من خلال التيار الحزبي الكاسح الذي مثله الوفد حزب الأغلبية في ما بين 1919 و1952 ولكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فقد اعترضت المسار تياراتٌ مختلفة وعوارض أخرى لا تقل قوة وتأثيراً، ويمكن أن نرصدها في النقاط التالية:

أولاً: إن بروز حركات الإسلام السياسي مع ميلاد جماعة الإخوان المسلمين على يد الإمام حسن البنا في مدينة الإسماعيلية عام 1928 كانت له تأثيراته وتداعياته التي مازلنا نعيش آثارها حتى اليوم، فالجماعة التي ظهرت بعد أربعة أعوام فقط من سقوط آخر خلافة إسلامية، أقول إن هذه الجماعة لم تقف على أرضٍ وطنية مصرية قدر وقوفها على أرضٍ إسلامية أممية حتى إن المتظاهرين من جماعة الإخوان كانوا يرددون أثناء حملات الانتخابات البرلمانية فى أربعينات القرن الماضي شعاراً يقول صوتٌ (للنحاس) صوتٌ ضد الإسلام، وهم الذين تحالفوا تاريخياً مع القصر وكانوا رصيداً طبيعياً للملك في مواجهاته مع حزب الأغلبية، لقد اختاروا دائماً ظل الخلافة والملك بدلاً من ظل الوطن والشعب، وأنا لا أقول ذلك من موقع الانتقاد المطلق للجماعة بقدر ما أريد أن أؤكد أن الجماعات الدينية بطبيعتها تجعل ولاءها لتنظيمها أسبقية على الولاء للوطن، ولقد حدث ذلك في كثيرٍ من أقطار العالم الإسلامي بدءاً من مصر وصولاً إلى فلسطين مروراً ب الجزائر وأفغانستان وغيرهما. وهذه زاوية خطيرة يجب أن نتنبه لها، فالوطن هو الأصل وهو الأول ولا تعارض في ذلك مع الانتماء العميق للدين الحنيف، وليتذكر هؤلاء وأولئك ممن يردون على ما نقول بغير وعي أن محمداً صلى الله عليه وسلم عندما أكره على الهجرة بسبب بطش الكفار وتعنت المشركين اتجه ببصره نحو المدينة المقدسة مكة المكرمة قائلاً: (والله إنك أحب بلاد الله إليّ ولولا أن أهلك أخرجوني ما تركتك)، ففكرة الانتماء إلى الوطن واضحة تماماً في الإسلام الذي ينص قرآنه الكريم على قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..) فالمعنى هنا واضح وهو التخصيص بالانتماء لشعبٍ أو لقبيلة وهذه مرادفات معنوية لكلمة الوطن، فليدرك الإسلاميون والمتأسلمون أن الانتماء لأوطانهم يجب أن يسبق جماعاتهم الدينية أو تنظيماتهم الدعوية، وفي هذه النقطة بالذات تكمن الخطيئة الأولى في حق المواطنة، وهي خطيئة تكتب الأحرف الأولى في مأزق الوطنية المصرية.

ثانياً: إن الوطن يحتوي كل أبنائه ويتسع لكل شركاء المكان والزمان، ومن العبث تصنيف جماهير الشعب لأسباب تتصل بأصل أو دين أو لون أو جنس، فالمواطنة تعني المساواة بين مختلفين، فهذا غنيٌ وذاك فقير، وذلك رجل وتلك امرأة، وهؤلاء مسلمون وأولئك مسيحيون، وهناك مصريون جاءوا من أصول إفريقية وآخرون قادمون من أصول عربية أو بحر متوسطية أو مغاربية، ولكن الجميع متساوون في مراكزهم القانونية وحقوقهم السياسية وفرصهم في الحياة بطقوسها المختلفة، وهذا يقتضي التركيز على المثلث الذهبي بأضلاعه التعليم والثقافة والإعلام، إذ يجب أن يدرك الجميع أن مصر محسودة على انصهارها السكاني واندماجها الاجتماعي ولا يجب العبث إطلاقاً بالتقاليد الوطنية الصميمة التي أرسى دعائمها أجدادنا العظام عندما تبنوا شعار الدين لله والوطن للجميع. وأنا أتحدى من يجد سبباً للتمييز بين المسلم والمسيحي في مصر، فاللغة واحدة والمزاج مشترك والسلوكيات متطابقة وأنماط المعيشة لا تختلف، كما أن الأغلبية تتحدث حالياً عن ضرورة مراعاة حقوق الأقلية العددية وتلبية مطالبها العادلة لأنها شريكة الدم والأرض، شريكة المياه والحياة.

ثالثاً: إن من أبرز جوانب مأزق الوطنية المصرية هو ذلك الفهم المغلوط لفلسفة قيادة الأوطان، فالبعض يخلط بينها وبين إدارة الشركات، بينما الفارق واضحٌ وضخم، فهذا خلطٌ تحكمي لا يخلو أحياناً من سوء فهم، فالشركات التجارية أو المؤسسات الاقتصادية يجري تقويمها وفقاً للعلاقة بين حجم الأرباح وكمية الخسائر بشكلٍ مجرد لا يعرف البعد الاجتماعي ولا الدفء الإنساني، قد يكون فيه استقصاءات رأي وأبحاث ميدانية وكلها قد لا تعكس بالضرورة طبيعة الإنسان المصري، أما قيادة الأوطان فهي تضع في اعتبارها أموراً أخرى تماماً ،إنها الجامعة والمدرسة، الحزب والنقابة، المسجد والكنيسة، إنها الأحياء الشعبية والعشوائيات، وهي أيضاً المتاحف والقناطر والسدود، إنها الصحافة والإعلام المرئي والمسموع، إنها هؤلاء وغيرهم، كما أنها رفاعة الطهطاوي وأحمد عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول والنحاس وعبد الناصر والسادات ومبارك وطه حسين والعقاد وأم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم من شوامخ الفن المصري.. إنها النيل والأهرام.

رابعاً: إن كسر الحلقة الشريرة للاشتباك غير المقدس بين الثروة والسلطة فى جانب والدين والسياسة فى جانب آخر أمور لازمة قبل أن نشرع في تحديد خريطة المستقبل، وهنا مربط الفرس لأن هذا التداخل قد أصاب مبدأ المواطنة في مقتل، بل وأدخل الوطنية المصرية ذاتها في نفقٍ مظلم وامتحانٍ عسير، وجسّد إلى حدٍ كبير أزمتها الراهنة ومشكلتها الحقيقية. ولقد جاء الوقت الذي يجب أن تضرب فيه الدولة بشدة على جميع مظاهر الفساد المالي والإداري بل والعبث السياسي أيضاً، فشيوع الفساد والسطو على المال العام وتوظيف المواقع السياسية لخدمة أغراضٍ اقتصادية هي كلها مظاهر سلبية مقلقة، لذلك يجب أن ندرك هنا أن استشراء الفساد بكل مظاهره المعروفة والخفية يؤدي إلى أزمة ثقةٍ حقيقية بين الأجيال الجديدة التي تفتقد القدوة وتشعر بغياب المصداقية والشفافية واختفاء مبدأ تكافؤ الفرص وإعطاء من لا يستحق ما هو حقٌ للغير. ويجب أن نؤكد هنا أن مأزق الوطنية المصرية في هذه الحالة يتجسد في حالة الاحتقان الشائع والتربص المتبادل بين قوى المجتمع وتياراته المختلفة.

خامساً: إن الاختيار الصعب أمام الوطنية المصرية يكاد يتلخص من خلال تساؤل واحد مؤداه هل يرضى المواطن بالتطرف أم يقبل بالفساد؟! أي أن عليك أن تختار بين أحد الاشتباكين الدين والسياسة أو الثروة والسلطة، وهما أمران أحلاهما مر، والرد الوطني الحقيقي على ذلك هو أننا نريد بلداً تسود فيه الأفكار الليبرالية الحديثة وينشط معه الاقتصاد الحر ويقود الدين أخلاقيات المجتمع بدلاً من أن يقود زمام السياسة، وتسعى فيه الثروة إلى إقرار العدالة الاجتماعية، وتتحرك فيه السلطة نحو الديمقراطية الكاملة، وليس ذلك أمراً بعيداً على مصر، فالإيجابيات كثيرة أيضاً.. عقولٌ بشرية متميزة وأفكار وطنية مستنيرة وروحٌ مصرية لا تموت، لذلك سوف نخرج من عنق الزجاجة يوماً وينتهي مأزق الوطنية المصرية أبداً.

إن ما أقوله ليس نوعاً من الشيفونية الصماء وليس تحليقاً وراء أوهام، ولكنه سعيٌ لتحقيق أحلام، وتغريدٌ داخل السرب الإنساني مع مفردات العصر بما فيها من حريات عامة وفردية، وحقوق إنسان عصرية، واحترام أقليات، ورعاية بيئة، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية مع الإيمان بتداول السلطة ودوران النخبة.. ولا تنسوا أبداً أن مصر ليست بلداً عاجزاً ولا وطناً عقيماً. إنها أم الدنيا!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"