مُتْ قاعداً

05:51 صباحا
قراءة 3 دقائق

هناك أشخاص ميتون بيننا، لكنهم ما زالوا يمارسون الحياة ويعيشونها مثلنا معشر الأحياء، إنهم المتقاعدون وخاصة أولئك الذين لمّا يبلغوا سن التقاعد بعد . ففي هذا الوطن بخاصة هناك ظاهرة اجتماعية غريبة، ألا وهي ظاهرة التقاعد المبكر، إنها لظاهرة محيرة فعلاً، ولو أنها وضعت على محك العقل لحار في توصيفها وأقامته الحيرة بين العجز والتعب، والأعجب أنها ظاهرة ماثلة أمام الجميع بقضها وقضيضها صباح مساء، ورغم ذلك فلن تجد أحداً منا مسؤولاً كان أو غير مسؤول سيتحمل حتى مجرد السؤال: لماذا؟ وليت شعري متى سندرك أن مرد ذلك هو عدم الاكتراث المتفشي بيننا؟ لقد طالعت سفر (المحيرات) وأطلت المطالعة فيه، وأخذت في تقليبه ذات اليمين وذات الشمال فلم أعثر على الجواب المقنع لعدم اكتراثنا هذا، الذي لا سند شرعياً له ولا حجة منطقية يتكأ عليها .

لا شك في أن القارئ سيداخله فضول حاد لمعرفة ما أريد قوله، لكن فضوله ستخفت حدته حينما يدرك كنه الأمر المراد طرحه .

نحن في هذا المجتمع الصغير لا تتعدى نسبة المواطنين فيه ال 15% من مجموع السكان البالغ خمسة ملايين نسمة، وإذا ما أخذنا في الحسبان القوة العاملة الوطنية من نسبة ال 15% سنجد أنها أقل من الضئيلة بجانب القوة العاملة الوافدة على كل الصعد . لكن المدهش في الأمر أن نسبة المتقاعدين بين المواطنين الذين مازالوا قادرين على العطاء، عسكريين ومدنيين، في ارتفاع مستمر، فهل من تفسير لهذه الظاهرة؟ وإذا كان القانون المطبق يجيز ذلك فهل هذا القانون نحن الذين وضعناه وشرّعناه أم هو منزّل لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا أمامه؟ فإذا كان وضعياً قدرنا على تعديله بل تغييره بما يلائم حاجتنا إلى ذلك التغيير وإذا كان منزلاً فلا بد له من آية أو حديث مُسْنَد .

شخصياً أعرف الكثيرين من المواطنين الذين لم يبلغوا سن الكهولة، لكنهم أحيلوا إلى التقاعد، وهم اليوم إما موظفون لدى شركات القطاع الخاص، أو أرباب أعمال حرة متفاوتة المستوى، أما مؤسسات الدولة - وما أكثرها - فقد استغنت عنهم في الوقت الذي يحتل فيها غير المواطن حيزاً عريضاً، إما بصفته خبيراً لا غنى لنا عنه مطلقاً، أو لأن واسطته أقوى من القانون بل فوقه!

إن الأوطان لا تبنى إلا بسواعد أبنائها، مهما كانت الحاجة إلى السواعد الأجنبية، لذلك فنحن أولى بنا أن نولي قوى العمل الوطنية كامل اهتمامنا، وأن يكون الاستثمار فيها على رأس أولوياتنا، وهذا يقتضي أولاً إعادة النظر إعادة جذرية في المنهج التعليمي وتوحيده، لأنه قلب العملية التنموية في أي مجتمع، وأن نحرص في الوقت ذاته على الاهتمام بالكيف لا الكم، في العملية التعليمية، فالظل لن يستقيم إلا باستقامة العود .

إن الوطن المستقل ذلك الذي يكون لأبنائه فيه النصيب الأوفر من كل شيء، لكن ما نراه ونعيشه كل طالع شمس وماذر شارق، هو على النقيض من ذلك، فثروتنا مستنزفة بالكم الهائل من العمالة الأجنبية، وبنيتنا التحتية مسخرة في الغالب لهذا الكم، الآخذ في الازدياد، من هنا نقول إنه إذا كنا في حاجة دائمة إلى القوة العاملة البشرية، فالأولى بنا تشجيع المواطن على الانخراط بمنظومة العمل أطول مدة من عمره، وذلك بتوفير الحوافز والرعاية له ومن يعول، وتذكيره بالأموال التي صرفت على تعليمه وتدريبه لئلا يذهب علمه سدى لا نفع له، وأن نعيد النظر في قانون التقاعد، أما أن يترك الحبل على الغارب لقانون أثبت عدم جدواه، فإن جهود التنمية ستذهب هي الأخرى هباءً تذروها الرياح، ولن تتحقق الغاية المثلى التي ننشد .

وما عليكم إلا أن تتصوروا فقط مواطناً مؤهلاً تأهيلاً جامعياً متقاعداً قبل أن يبلغ أشده، أو بلغه، وهو في كامل صحته الجسدية والعقلية، تصوروه يعمل مندوب العلاقات العامة لشركة أجنبية، بينما يحتل نظيره الأجنبي مكانه هناك في إحدى الدوائر أو الشركات الحكومية . وللعلم فقط فهناك مؤسسة حكومية ذات أهمية بالغة لا وجود للمواطنين فيها . والمواطن وخاصة المؤهل، لا يسمح له حتى مجرد تقديم طلب عمل في تلك المؤسسة، ومثلما ينعدم وجود المواطن فيها تنعدم اللغة العربية، وهذا أمر طبيعي، فالسباخ لا تنبت إلا العدم .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"