متى تقدم الرخصة على العزيمة؟

02:06 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عارف الشيخ

العزيمة في عرف الفقهاء مأخوذة من العزم القوي النافذ، وهي تشتمل الأحكام التكليفية الخمسة: الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح.
يقول الشاطبي: «العزم في الواجب والمندوب يكون بالتصميم على الفعل، وفي الحرام والمكروه يكون في التصميم على الترك، وفي المباح مشترك بينهما باعتبار خدمته لهذا أو ذاك». (انظر الموافقات ج 1 ص 141- 142.
وصيغ الرخص غالباً تكون بالعبارات المستفادة من مادة الرخص مثل: نفي الجناح، نفي الإثم، نفي المؤاخذة، نفي الحنث، نفي السبيل، نفي الحرج، نفي البأس.
ومحل هذه الرخص هو الحالات التي يتوقع فيها حصول الضرّ كالمرض الذي يمنعه من أداء الصلاة قائماً، أو كالصوم المؤدي إلى الموت، أو زيادة المرض.
ففي مثل هذه الحالات يكون الترخص مطلوباً، بل تترجح الرخصة وتكون إلى العزائم أقرب، لذا قال العلماء بوجوب أكل الميتة خوفاً من التلف، فأكل الميتة رخصة لمن لم يجد الطعام المباح، لكن أكل الميتة للمضطر ليس من قبيل الندب والاستحباب، بل على سبيل الوجوب، لأن الله تعالى نهى عن قتل النفس.
فواجب عليه أن يأخذ بالرخصة، فانظر إلى المعنى كيف تحولت الرخصة إلى العزيمة لمّا تطلَّب الموقف أن يغلب الرخصة على العزيمة، لأنه لو لم يأخذ بالرخصة لأدى ذلك إلى تلف النفس، وقاتل النفس آثم وحفظها حق من حقوق الله.
وفي المقابل، قد تكون الرخصة في شيء راجع إلى العباد، والصبر عليه فيه مشقة، لكن مقدور عليه، كالصوم بالطائرة في هذه الأيام مثلاً، فهو وإن كان فيه مشقة يسيرة، إلا أنه قادر على الصوم.
ففي هذه الحالة الأفضل أن يأخذ بالعزيمة، فلا يفطر وإن كان من حقه أن يأخذ بالرخصة، لأنه مخير بينهما، ولا يلحقه إثم إذا رجح أياً منهما على الآخر.
ومن صور ترجيح العزيمة على الرخصة موقف أبي بكر رضي الله عنه من حرب الردة ومانعي الزكاة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فحصل ذلك في وقت كان الجيش مع أسامة بالشام، وكان رأي جمهور الصحابة ألا يشدد أبوبكر مع مانعي الزكاة، فلا يطالبهم بها، إذ ربما لو طلب منهم عاندوا وقاموا بمحاربة أبي بكر، وعندئذٍ قد ينكسر المسلمون، ورأوا المصلحة في الأخذ بالرخصة للمصلحة.
لكن أبا بكر رأى غير ذلك، وأقسم أن يطالبهم بها وقال: «لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه في عهد الرسول لقاتلتهم»، فأخذ بالعزيمة، فتبين فيما بعد للصحابة أن الأخذ بالعزيمة كان أولى (انظر الموافقات للشاطبي ج 1 ص 225، وانظر أصول الفقه للخضري ص 89).
ومن أمثلة ترجيح الأخذ بالرخص أن الإسلام جعل للزوج أن يطلق زوجته طلقة واحدة ليؤدبها بذلك، فالطلاق غير مستحب منه، ومزعج للزوجة، لكنه قد يؤدبها، وإذا علم أنها تأدبت وصلحت راجعها.
وإذا تكرر النشوز منها طلقها ثانية طلقة رجعية، فربما التي لم تتأدب بالطلقة الأولى تتأدب بالطلقة الثانية.
انظر إلى عملية طلاقها في المرة الأولى والمرة الثانية، حيث تعد في حقه رخصة في مثل حالته، وكان بإمكانه أن يأخذ بالعزيمة وهي الطلاق الثلاث، لكن لو فعل ذلك فوَّت على نفسه المصلحة أو المصلحتين: مصلحة نفسه، حيث إنه لم يخسرها كلياً، ومصلحة أولاده منها، حيث إنهم لم يحرموا من أمهم.
وهذا الموقف يعد من ترجيح الرخصة على العزيمة، وكون المصلحة في جانب الرخصة هنا، وجب عليه أن يأخذ بالرخصة، مثل المضطر الذي وجب أن يأكل الميتة، وهكذا يتعامل مع كل المواقف المشابهة لمثل هذه المواقف التي ذكرناها، لأن الشرع ينظر إلى المصلحة العامة دائماً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مؤلف وشاعر وخطيب. صاحب كلمات النشيد الوطني الإماراتي، ومن الأعضاء المؤسسين لجائزة دبي للقرآن الكريم. شارك في تأليف كتب التربية الإسلامية لصفوف المرحلتين الابتدائية والإعدادية. يمتلك أكثر من 75 مؤلفا، فضلا عن كتابة 9 مسرحيات وأوبريتات وطنية واجتماعية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"