علينا الاختيار: العقل والعدالة أو التكفير

05:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
د . علي محمد فخرو
في هذه الحقبة الإسلامية التي نعيش حالياً فظائع تجاوزاتها القيمية، ونتلحًّف بسواد ليلها الحالك الذي يفرضه على أرض وطن العرب كلًّه، جنون التكفيريين المنتعلين أحذية دم الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء، بغرور العار وابتسامات الشيطان، خارج حظيرة الله وأنبيائه والصالحين من عباده . في حقبة الجحيم الإسلامي الذي يلفح وجوهنا كل يوم فلا نرى من خلاله إلاً ظلمة المستقبل القاسي المفرًّغ من عبق الرًّحمة الإلهية ونورها . في هذه الحقبة نحتاج لأن نسترجع في ذاكرتنا وعقولنا وأرواحنا وأعماق إنسانيتنا بأن في قراءة رسالة الإسلام يكمن وجهان: الأول يمًّثله تزمُت وتخلُّف وقسوة وعبثية وإجرام قوى الكره والتكفير والإبادة للآخر التي نراها أمامنا، أما الثاني فيمكن استحضار تسامحه وتقدميته وإنسانيته وعقلانيته من بعض فترات الألق في التاريخ .
في كتابه "فكرة العدالة" يشير "أمارتياسِن"، الكاتب الهندي الأصل الفيلسوف الشهير، الأستاذ في جامعة هارفرد الأمريكية، إلى أن أصل قيم العقلانية والأخوة والتسامح والعدالة في القانون، لم تولد في حقبة الأنوار الأوروبية كما يعتقد، وإنًّما سبق إلى الإيمان بها، بل وتطبيقها، أناس آخرون في تاريخ البشرية الطويل .
لذا، وبفخر واعتزاز، عندما يتحدث عن بعض متطلبات وجود العدالة واستمراريتها في المجتمعات، من مثل العقلانية والتسامح والانفتاح على الآخر، يشير إلى الإمبراطور المغولي المسلم الشهير، المسمى بأكبر العظيم، يشير إليه مثلاً للعقلانية والتسامح .
إمبراطور المغول هذا، قام في بداية الألفية الثانية الهجرية، منتصف القرن السادس عشر الميلادي، عندما كانت أوروبا تعيش في ظلام الحروب الدينية وجنون محاكم التفتيش التي كانت تحرق النساء البريئات باسم محاربة الهرطقة والسٍّحر الشيطاني، هذا الإمبراطور أعلن على الملأ بأن العقلانية، وليست التقاليد والأعراف، هي التي يجب أن تحكم التعامل مع القضايا الصعبة في حقول السًلوك وبناء مجتمع العدل .
وفي الحال قام بمراجعة هائلة للقيم الاجتماعية والسياسية وللممارسات القانونية والثقافية في المجتمعات التي كان يحكمها . هذه المراجعة قادت الإمبراطور إلى حصيلة من المبادئ والممارسات التي يشيد بها الكاتب، منها:
1- التركيز الشديد على أن العلاقات فيما بين مكونات المجتمع (المسلمين وغير المسلمين) يجب أن تكون تعاونية تؤدي إلى السلم الأهلي . ومن أجل ذلك تبنَّى المبدأ الصوفي (السلام للجميع) أساساً لملكه الإمبراطوري .
2- شرّع مبدأ التسامح الديني في إمبراطوريته التي كانت فيها أعداد كبيرة من غير المسلمين وعلى الأخص أتباع الدًّيانه الهندوسية . شرّع بأنه لا يجوز التدخل في حياة الناس بسبب انتماءاتهم الدينية وثبّت حقهم في الإيمان بالدين الذي يرغبون فيه .
ومن أجل التفاهم بين الأديان دعا إلى لقاءات دورية في عاصمة الإمبراطورية بين علماء الديانات التوحيدية وغير التوحيدية، بل والإلحادية، وذلك بقصد التعرُف إلى الآخر واحترام حقوقه والتمهيد للإعلان الرسمي عن أسس الدولة المدنية التي تمارس الحياد بين الأديان وأتباع الأديان .
3- ثبت مبدأ أنه ليس من العقل أن تتصرَف جماعة بطريقة تؤدٍّي إلى إيذاء الآخرين . ولذلك ألغى نظام ماكان يعرف "بالعبودية الإمبراطورية" على أساس أنه خارج العدالة والسلوك السَّوي أن يستفاد من استعمال القوة . ثمُ أتبع ذلك بإلغاء جميع الضَّرائب الخاصة المفروضة على غير المسلمين، أي الجزية، على أساس أن ذلك ضدً مبدأ المساواة بين مواطني الإمبراطورية .
4- وكجزء من فهمه للعقلانية والعدالة أعلن معارضته لزواج الأطفال على أساس أن الهدف من الزواج لا يمكن أن يتوفر في مثل زواج كهذا ولأن هناك امكانية إيذاء للأطفال .
وهو المنطق نفسه الذي دعاه لمحاربة الممارسة الهندوكية التي كانت لا تسمح للمرأة الأرملة بالزواج مرة ثانية، على أساس أن ذلك هو ممارسة غير عادلة .
كثيرة هي الأفكار الإنسانية والممارسات العادلة التي طرحها ذلك الإمبراطور المسلم، الممارس بتعلُّق شديد لشعائر دينه الإسلامي، الذي كان لا يعرف القراءة ويأتي بآخرين لقراءة الكتب له ليحفظها عن ظهر قلب، طرحها في وجه ما رآه فهماً غير عقلاني للإسلام . القضية الأساسية عنده إعلاء مكانة العقل وقيم العدالة والتسامح والسلم الأهلي . هذا الإمبراطور المسلم يراه بعض المؤرخين من بين أعظم أربعة حكام في تاريخ البشرية، وكان تأثيره كبيراً في الزعيم الروحي المهاتماغاندي .
إذن في فهم الإسلام هناك إمكانيات الممارسات البليدة والحقيرة التي نراها أمامنا اليوم، وهناك إمكانيات ممارسة ألق ونور الروح والعقل والوجدان إذ يتعاملون ويتفاعلون مع رسالات السماء المشعًّة رحمة وسلاماً وعدلاً وأخوة، وعلى علماء هذه الأمة المنكوبة المنهكة وقادتها وشعوبها أن يختاروا قبل فوات الأوان .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"