الاحتجاج فلسفة وممارسة

04:47 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

اجتاحت الاحتجاجات، مؤخراً، عدداً من الدول في قارات مختلفة، تطالب معظمها بتغيير الأنظمة السياسية الحاكمة، وبعض تلك الأنظمة قائم منذ عقود، من دون أي تحوّلات تذكر، وأتى الحراك في العراق لبنان، ومن قبلهما في الجزائر والسودان، ليجترح مصطلح «الموجة الثانية»، وهو يشير من الناحية الدلالية إلى أن موجات الاحتجاجات في العالم العربي ستكمل مسيرتها في غير مكان، فاتحة العالم العربي على احتمالات عديدة، على الرغم مما شاب «الموجة الأولى» من تحوّلات في مساراتها أشاعت جوّاً من التشاؤم في أوساط عديدة، من بينها نخب وأسماء كانت تطالب بالتغيير منذ سنوات وسنوات.
من الناحية المعرفية لا يمكن تصويب سهام النقد الفكري أو السياسي أو كليهما معاً إلى ظاهرة الاحتجاج نفسها، فهي كظاهرة جزء من السياق التاريخي الاجتماعي والسياسي المعاصر، وبفضلها حدثت إنجازات كبرى، لم يكن توقّعها من دون هذه الظاهرة، وما دُفع عبر تاريخها من أثمان باهظة، لفئات وأشخاص ناضلوا لتحسين ظروف حياتهم في مستوياتها كافة، الاقتصادية والسياسية والإنسانية والمهنية، وغيرها.
من الناحية الفلسفية، يقوم الاحتجاج على مبدأ الرفض، ومن ثم عدم الركون إلى الأسباب التي تطرحها الفئة الحاكمة لاستمرارها في الحكم، ولم يكن لهذا المبدأ أن يترسخ في نضال البشر لتحسين أوضاعهم لولا أن مبدأ آخر أخذ بالرسوخ منذ القرن السادس عشر، وهو مبدأ الشك، ونزع القداسة عن السلطات الدنيوية، بوصفها ممثلة الحقّ الإلهي، وأصبح بالإمكان مقارعة الحجة بالحجة، وهو ما أفضى في سياق طويل ومركّب إلى الديمقراطية كما تعرفها الكثير من الدول المتقدمة اليوم.
خلال العام الماضي، شهدت معظم دول الاتحاد الأوروبي احتجاجات عديدة، كما في حالة «السترات الصفراء» في فرنسا، كما أن ألمانيا، والتي تعدّ القاطرة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، عرفت إضرابات عمالية كبرى في قطاع النقل، وبلجيكا كانت مهدّدة اقتصادياً نتيجة طول الإضرابات في غير قطاع اقتصادي، وكل ذلك يعدّ جزءاً لا يتجزأ من الحياة العامة.
السياسيون وأرباب العمل من أصحاب المصانع الكبرى في الدول الديمقراطية، يدركون أن النظام السياسي يشتق شرعيته من الشعب، وأن المواطنين قادرون على إسقاط الحكومات عبر البرلمان، من خلال ما يعرف بإجراء «سحب الثقة»، أو من خلال المظاهرات الكبرى إذا لزم الأمر، ولذا فإن السياسي يدرك أنه لا يمكن تجاهل الإرادة الشعبية، وعليه تفهّمها حتى لو اختلف معها، كما أنه لا يستطيع أن يبقى في منصبه في حال ثبتت عليه تُهم معينة، وفي حالات كثيرة، يبادر السياسي المعني إلى تقديم استقالته من منصبه، في محاولة للحفاظ على صورته بصفته مواطناً يحترم الدستور والقانون، وللحفاظ على رصيد حزبه لدى الجمهور.
النخب السياسية التي تطالبها الجماهير بالاستقالة لا تسأل نفسها عن سرّ هذا الغضب الشعبي، وما الذي أوصل الناس إلى المغامرة بأنفسهم والنزول إلى الشارع، مع أن هذا الأمر قد يكلف البعض حياته، نتيجة الاعتداء عليه من قبل قوات تابعة للحكومة أو ميليشيات طائفية.
لا يمكن بناء مسار للازدهار والتقدم في عالمنا العربي من دون إعادة النظر في المفاهيم الحاكمة للسياسة، وما يرتبط بها من ممارسات، فالاحتجاجات السياسية أو النقابية ليست عيباً، والمواطنون ليسوا فاقدي الولاء لأوطانهم، وإنما أصحاب حقوق، يجب أن يكفلها الدستور والقانون، وأن يكفل الدفاع عنها، كما أن الطبقة السياسية ليست منزّهة، وهي موجودة لخدمة الناس (بحسب الدساتير، أو كما تقول وتدّعي)، ولذلك فإن محاسبتها ومساءلتها أمر بديهي لا يحتاج إلى استنكار الاحتجاج، أو إطلاق الرصاص على أصحابه، أو التنكيل بهم في الشوارع.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"