تباشير عودة العراق الوطني المدني

02:24 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي

بينما كان الحديث يجري عن رغبة موسكو بالتمدد الى العراق تحت عنوان محاربة «داعش» ، وكأن أمريكا وإيران والجيش العراقي والبشمركة( القوات الكردية) والحشد الشعبي ومسلحي العشائر عاجزون معاً عن مكافحة هذا التنظيم الإرهابي،.. في هذا الوقت كان العراقيون يهتبلون فرصة يوم العطلة (الجمعة) لتجديد وتوسيع احتجاجاتهم الشعبية العابرة للمناطق والطوائف.
الاحتجاجات تندلع مجدداً ضد الفساد والبطء في مكافحته، ومن هذا الفساد تسربت «داعش» ، حيث لم تنج مؤسسة منه بما في ذلك المؤسسات الأمنية التي انهارت خلال ساعة من الزمن أمام زحف عصاباتها على الموصل. على أن الاحتجاجات تميزت هذه المرة بالمطالبة بمعرفة مصير المختطفين! وهؤلاء لم تختطفهم جهات إرهابية، إذ كانوا من نشطاء الاحتجاجات على مدى الأسابيع الماضية، ورفع المتظاهرون لافتات تندد بقتل المتظاهرين ومحاولات تكميم الأفواه ، مشددين على أن التظاهر السلمي حق كفله الدستور، وبما يوجه أصابع الاتهام إلى جهات رسمية، علماً أن بعض المحتجين تعرضوا لما هو أسوأ من الاختطاف فقد تمت تصفيتهم، الأمر الذي يدلل على منطق ميليشياوي ما زال يحكم عمل بعض المؤسسات المولجة بالحفاظ على حياة الناس وضمان أمنهم. فضلاً عن عجز القضاء عن القيام بدوره، حيث طالب المتظاهرون بتطهير هذا القطاع بدوره من الفساد.
الاحتجاجات الأخيرة وقعت في ساحة التحرير في العاصمة بغداد وفي عشر مدن في عشر محافظات في الوسط والجنوب. بما يمنحها طابعاً جماهيرياً حقيقياً، خاصة أنها من التحركات القليلة التي تنبذ التحشد الطائفي، والتي تحمل طابعاً وطنياً ومدنياً، إذ نأت عن الميليشيات والمجموعات المسلحة، وكذلك عن زعماء الطوائف، بما يدلل المرة تلو المرة عن الضيق الشعبي المتزايد من الاستقطاب الطائفي الذي سمح بالفساد وسوّغه، وتستحق هذه التحركات الشعبية وصفها بأنها تنم عن نضج سياسي ووطني بعد طول معاناة ودوران في حلقات مفرغة دفع العراقيون ثمناً فادحاً لها من أمنهم وأرواحهم وأرزاقهم طوال نحو عقد من السنوات.
المحتجون طالبوا بتقديم الفاسدين والمفسدين إلى العدالة، وأبدوا سخطهم على تسويف الإصلاحات، ودعوا هذه المرة إلى حكومة مدنية. وهو مطلب جديد ونوعي يشهد على رؤية وطنية متقدمة تنبذ نفوذ زعماء الطوائف على الحكومات والمؤسسات على اختلافها، كما تعني رفع يد الميليشيات عن التركيبة الحكومية فلا تكون الحكومة امتداداً للميليشيات، ولا المجموعات المسلحة امتداداً للحكومة، وبما يعني التوجه إلى بناء مؤسسة عسكرية وأمنية مهنية ووطنية، لا تتدخل في الشأن السياسي الداخلي، ولا يجري تسخيرها لمصلحة هذا الطرف أو لحساب تلك الفئة لتحمي الوطن والمواطن، وتكافح الإرهاب أنّى كان مصدره ولبوسه، وفي هذه الآونة لا شك أن مكافحة «داعش» البربرية تتصدر الأولويات، على ألا يتم غض النظر عن تجاوزات جسيمة تطاول الأهالي والأبرياء تحت شعار مكافحة «داعش» وتسهم في التأجيج الطائفي المقيت.
المحتجون أشاروا كما أوردت تقارير إعلامية إلى أن حراكهم يُعد نقطة تحول في تاريخ العراق المعاصر، وليس من المبالغة في شيء في ضوء ما تقدم أن يوصف هذا الحراك بما تم به وصفه من الناشطين المدنيين، الذين أوضح بعضهم وفق التقارير نفسها أن أكثر من 800 مليار دولار قد سُرقت منذ عام 2003، وأن أكثر من ثمانية آلاف مشروع لم ينفذ منها سوى 450 مشروعاً فقط، والبقية تم ابتلاع أموالها وفق أقوالهم.
ومن يقترب من العراقيين من مختلف المشارب ومن شتى الشرائح والمناطق، فإنه يسمع ملاحظات كهذه وما هو أقسى منها، وإذا كان هناك ما يوحّد العراقيين في هذه الآونة، فليس هناك ما يوحدهم بقدر النقمة العامة على الفساد والفاسدين، الأمر الذي دفع بشرائح عريضة من المجتمع إلى هاوية الفقر، وإلى الشكوى المريرة من نقص الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء وحتى البنزين في بلد يعوم على بحيرة من النفط، فيما الأموال تُهدر بالمليارات، وفيما التقارير الدولية من طرف منظمات وهيئات معنية برصد النزاهة والتجاوز عليها، تضع العراق العزيز في مرتبة متقدمة بين الدول التي تنوء بالفساد.
لقد جعل الفساد من العراق دولة فاشلة، وأسهم هذا الفساد إسهاماً مباشراً في اضطراب حبل الأمن على نحو خطر، وسمّم الحياة السياسية والبرلمانية والإعلامية، حتى إن أصابع الاتهام أخذت تتوجه أيضا إلى القطاع القضائي، وهو ما جعل العراق يعيش حالة من التقهقر المطرد، في وقت ظل فيه بعض السياسيين النافذين يتشدقون وحتى إلى شهور قليلة خلت بتحقيق إنجازات وطنية كبيرة وموهومة، وفيما يلمح رئيس الحكومة الحالي حيدر العبادي إلى أنه يواجه جبلاً من الفساد، فيما بعض المسؤولين السابقين يرفضون التخلي عن امتيازات كبيرة منحت لهم ، وبالأحرى هم منحوها لأنفسهم، في ظل غياب دولة القانون والمتاجرة بالطائفية، والادعاء الدائم بمكافحة الإرهاب، فيما كان الإرهاب متعدد المصادر ينمو ويتسع، وفي وقت كانت الميليشيات تزداد وتتكاثر، وتنال ما تنال من حصص، ولو أدى ذلك ، وقد أدى إلى ازدواجية أمنية، وإلى دفع المتعطلين عن العمل إلى الالتحاق بها، وبحيث تحوّل هذا الفساد إلى شبكة هائلة تطبق على مفاصل المجتمع.
وبهذا تتبدى أهمية الحراك الوطني المدني الذي يدق جرس الخطر، ويعلن أنه آن للعراق والعراقيين أن يفتحوا بالفعل صفحة جديدة من تاريخهم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"