قمتان في الفكر . . اختلاف في المرجعية

04:37 صباحا
قراءة 6 دقائق

يراودني بين حين وآخر هاجس يلح على خاطري مشيراً إلى الاختلاف الفكري الذي يعتري بعض الشخصيات ذات الثقل الثقافي وينقلها من اتجاه إلى نقيضه، ومازلت أتذكر عندما كان يدرس لنا أستاذنا الراحل الدكتور محمود خيري عيسى تاريخ الفكر السياسي أنه كان يتخذ من الفيلسوف شيشرون نموذجاً لتحول المفكر وفقاً لمراحله العمرية المختلفة، وقد ظل هذا القياس لصيقاً بذاكرتي عندما أتأمل التحول في المرجعية لدى بعض قادة الفكر في مصر الحديثة، وأرقب تلك العملية لديهم نتيجة لأحداث عامة معينة أو تجارب ذاتية مؤثرة وأظل أرقب تلك القمم والتغير الذي طرأ على مسارها الفكري وسلوكها السياسي وأقول لنفسي إنها ظاهرة قديمة لا تبدأ ب شيشرون ولا تنتهي بميلاد حنا وطارق البشري وهذان الاسمان الأخيران هما النموذجان اللذان أستعين بتاريخهما الفكري ومواقفهما السياسية لإيضاح وجهة نظري التي أسعى إلى الخروج بها من هذا المقال .

فالأستاذ الدكتور ميلاد حنا هو أستاذ جامعي مهندس طوع الأسلوب العلمي في التفكير لخدمة مواقفه الفكرية وتأرجح بين العلم والفكر وتعاطى السياسة أيضاً وكان دائماً محسوباً على اليسار المصري بمرجعيته العلمانية، وأسهم إسهامات رائدة ورائعة في هذا السياق وظلت كتبه ومقالاته وأحاديثه ومحاضراته تعبيراً أميناً عن ذلك التوجه للصبغة اليسارية التي تؤمن بالدولة المدنية وتحفظ مسافة من الاحترام مع الكنيسة القبطية من دون اقتراب شديد، إلى أن وقعت الواقعة عندما جمع الرئيس الراحل أنور السادات كل أطياف العمل السياسي المصري وكل ألوان الفكر المعاصر ضمن عملية الاعتقال الشهيرة في شهر سبتمبر عام 1981 قبيل اغتياله بأسابيع قليلة، فقد كان يسعى - رحمه الله - إلى إسكات كل الأصوات حتى تتم المرحلة الثالثة من اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وقد أصاب د . ميلاد حنا ما أصاب غيره من الساسة والمفكرين والكتاب والمثقفين فجرى اعتقاله في ظل ظروف طائفية مريبة أقدم فيها رئيس الدولة على سحب اعترافها بخاتم بابا الأقباط مجرداً إياه من صلاحياته الدنيوية غير قادر على المساس بقيمته الروحية، ولقد خرج علينا د . ميلاد حنا من تجربة الاعتقال وقد انتقل من خانة اليساريين العلمانيين إلى خانة الأراخنة المحترمين، فلقد غلبت على ذلك العالم المفكر منذ ذلك الحين مشاعره الطائفية وطفت على السطح عقيدته الدينية وأصبح معنياً إلى حد كبير بالشأن القبطي باعتباره جزءًا من هموم الوطن التي حملها د . ميلاد حنا على كاهله سنين عمره، فهو صاحب أعمدة الحكمة المصرية والإسهامات الرائعة في مجالات الهندسة والإسكان والفلسفة والسياسة والفكر والثقافة، ومازلت أتذكر حديثه في الكنيسة بالزمالك يوم رحيل الكاتب الصحفي فيليب جلاب وحرصه على الوحدة الوطنية وتحويله الجنازة إلى مظاهرة سياسية التفت حولها قلوبنا جميعا مسلمين ومسيحيين، وأستطيع أن أميز بوضوح بين مرحلتين في حياة الدكتور حنا، الأولى معنية بالشأن العام انطلاقاً من مرجعية علمانية والثانية عناية مماثلة بالشأن العام، ولكن من زاوية جديدة تسللت إليها المشاعر الدينية الحبيسة والمعاناة التي نلحظها لدى الأقلية العددية في كل مكان من عالمنا المعاصر .

فإذا جئنا إلى النموذج الثاني وأعني به المستشار طارق البشري وهو سليل بيت علم ودين لا يبدأ بالشيخ سليم البشري ولا ينتهي بالشيخ عبد العزيز البشري وحدهما، بل إن ذلك البيت العريق قد قدم للوطن شخصيات مرموقة كان منهم مشايخ الأزهر ورواد الأدب والقضاة الكبار والوزراء المسؤولون عبر المراحل المختلفة لتاريخ مصر الحديث .

وفي ظني أن المستشار طارق البشري هو نموذج فريد لرجل القضاء الذي أصبح واحداً من ألمع المؤرخين المعاصرين وأكثرهم قدرة على التحليل السياسي والثقافي والاجتماعي لمراحل تطورنا الفكري في القرنين الأخيرين، ومازلت أعترف أن الذي دفعني إلى اختيار موضوع أطروحتي للدكتوراه بجامعة لندن في مطلع السبعينات من القرن الماضي حول (الأقباط في السياسة المصرية . . مكرم عبيد نموذجاً)، أن الدافع وراء هذا الاختيار كان سلسلة المقالات الرائدة والرائعة التي نشرها الأستاذ طارق البشري وكانت على ما أتذكر تحت عنوان أحمد والمسيح، وكانت تلك المقالات كما أتذكر أيضاً هي المادة العلمية لكتابه الشهير عن الجماعة الوطنية، ولقد استفدت كثيراً مما قرأت له وزاد احترامي بعدما قرأت عنه، وكانت مرجعيته في ذلك الوقت وطنية مصرية أقرب إلى اليسار منها إلى أي توجه آخر، كما أن كتاباته كانت تنطلق من قاعدة علمانية يثريها فهم واسع للإسلام وإيمان عميق بمبدأ المواطنة مع تجرد وموضوعية عرف بهما طوال حياته الفكرية، حتى أنني عندما أصدرت كتابي عن الأقباط في السياسة المصرية في مطلع الثمانينات لم أجد أفضل من المستشار طارق البشري لكي يكتب لي مقدمته، وكنت قد شاركته مع المستشار الراحل وليم سليمان قلادة في كتاب مشترك قدم له الدكتور بطرس بطرس غالي وصدر عن الأهرام عام 1981 تحت عنوان وطن واحد وشعب واحد .

ولابد أن أعترف الآن أنني قد لاحظت في السنوات الأخيرة أن المرجعية التي يستند إليها ذلك المفكر الكبير قد طرأ عليها شيء من التغيير دفع بذلك المؤرخ الوطني والمحلل السياسي في اتجاه يختلف عن سنوات البداية، فقد سيطرت على كاتبنا الكبير نزعة إسلامية وهذا أمر لا بأس به بدأت تشده من الوسط في اتجاه الأطراف في تحول يكاد يكون مماثلا لذلك الذي طرأ على د . ميلاد حنا بالانتقال من الوسط إلى الطرف الآخر، وكنت أسأل نفسي دائماً يا تُرى ما هو السبب في ذلك التحول الذي يحدث بالانتقال من مرجعية علمانية إلى مرجعية دينية تكاد تسيطر على مناحي الحياة المختلفة فأصبحت كلمتا الحلال والحرام هما البديل الطبيعي لكلمتي قانوني وغير قانوني؟ ورغم علمي بما عاناه المستشار البشري والثمن الذي دفعه احتراماً لمبادئه وفكره حتى أفلتت منه رئاسة مجلس الدولة رغم جدارته واستحقاقه فإنني أسوق هنا ملاحظات ثلاثاً هي:

* أولاً: إن التحول من اتجاه إلى آخر لا علاقة له إلا بالتغير الفكري والسلوكي وحدهما، فكم من مفكر مرموق أو عالم متميز ولكنه اختار طريقاً في بداية حياته ومطلع شبابه يختلف بالتجربة الذاتية والمعاناة الإنسانية والتحولات المحيطة ليتحول إلى موقف آخر قد يختلف تمامًا عن الموقف الذي بدأ به ذلك الرائد الذي يمثل واحداً من قادة الرأي وأئمة الفكر، ويجب أن أشير هنا بوضوح لا لبس فيه إلى أن التحول الذي شعرت به من جانب بعض كبار المثقفين والمفكرين والذي اتخذت نموذجي حنا والبشري للتدليل عليه لا يمس من قريب أو بعيد مكانتهما الرائدة أو أمانتهما الفكرية خصوصًا، وأنهما لم يكونا في يوم من الأيام من رموز السلطة أو حملة المباخر ومرددي الأناشيد، بل إنهما كانا من البداية حتى النهاية إيقاعاً وطنياً خالصاً ورصيداً شعبياً لا خلاف حوله .

* ثانياً: إن التحول الفكري ظاهرة بشرية طبيعية ترتبط بالتجارب التي تصقل صاحبها، والخبرات التي تراكمت لديه، فالإنسان ابن ظروفه كما أن فكره هو وليد المرحلة التي يمر بها، لذلك فنحن لا نجرم التحول الفكري بل إننا نراه ظاهرة إنسانية طبيعية تستحق التقدير وتستوجب الإشادة .

* ثالثاً: أزعم وقد أكون مخطئاً أن المناخ الاجتماعي والبيئة السياسية التي مرت بها مصر في العقود الأخيرة تقف بقوة وتؤثر بشدة في التحول الذي رصدناه في مسار نموذجي حنا والبشري، فقد انتقلت مصر من الفكر الإصلاحي والليبرالية السياسية في العصر الملكي إلى التوحد الفكري مع الليبرالية الاجتماعية في العصر الناصري، إلى أن اكتسحت حياتنا ظواهر التطرف الديني وافدة علينا أو صادرة عنا، لكي تأتي معها بمناخ جديد وبيئة مختلفة يلعب فيها الدين دوراً رئيسياً سواء كان ذلك في تشكيل الشخصية أو توجيه الانتماء أو فتح مسارات مختلفة أمام العقل المصري بحيث انحسرت مساحة الاعتدال وتراجعت مسافة التسامح وبرزت شواهد التعصب الديني والطائفية المقيتة، والتشدد الكئيب والتزمت الأحمق، وأصبحنا نفتش بين كبار مفكرينا عمن يأخذون بيد المجتمع المصري إلى مرفأ الإصلاح وشاطئ الأمان .

تلك قراءتي المجردة لقضية التحول الفكري واختلاف الانتماء السياسي وتغيير المرجعية الأساسية، وقد اخترت لذلك نموذجين مرموقين خرجا من رحم الوطن الواحد ويمثلان نسيجه المشترك الذي لن يتمزق أبدا .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"