لعبة السياسة والفن

03:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

بين الفن وأهله، والسياسة وصناعها، علاقة جدلية قديمة متجددة، يتكاملان أحياناً، ويتنافران أحياناً، بحسب طبيعة الظروف، وطبيعة شخصيات من يديرون دفة الحكم، ومن يتحكّمون في لعبة الفن. فالفن كثيراً ما كان أداة في يد الحاكم، يوجهه ويستغله للترويج لسياساته، وحشد الرأي العام وراء قراراته، وفي بعض الأوقات كان وسيلة تحذير من مغامرات الساسة وعواقب قراراتهم، بل وفضح ممارساتهم،وتأثيراتها الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية.
الساسة كانوا في بعض المراحل، وما زالوا، داعمين للفن، ومكرمين لنجومه؛ وفي مراحل أخرى، مهاجمين له، ومنتقدين لصنّاعه، ومتربصين به عبر الرقابة، وقرارات المنع، والمصادرة، والرفض، بدعوى أنه أداة هدم للقيم ونشر للفوضى، وتحريض على التمرد، وتضليل للرأي العام.. وكليشيهات أخرى جاهزة لتقييد حرية الفن.
عندما تتحالف السياسة مع الفن، وتقنعه بمنطق المصلحة العامة، وسمعة الوطن، وتترك له هامشاً من الحرية يخرج من خلاله قليلاً عن النص، يحققان سوياً أفضل نتيجة ممكنة، ومقنعة للرأي العام من دون أن يلقى الفنانون اتهامات من الجمهور بأنهم تحولوا إلى قطع شطرنج في يد الحاكم يحركها كيفما يشاء.
وعبر التاريخ كانت علاقة سيد البيت الأبيض بصناع ونجوم الفن الأمريكي متميزة، وغالباً ما كان كل منهما في خدمة الآخر، يروج له، ويسانده، ويكرمه، ويتكامل معه، وكله تحت عنوان عريض هو مصلحة الولايات المتحدة، وصورة البطل الأمريكي، وسمعة المواطن حول العالم.. وللسينما دور قد يتفوق على الدبلوماسية في نشر «القيم الأمريكية»، وتجميل سمعة «سيدة العالم»، ومواطنيها، ومن نتائج القناعة بالممثل الأمريكي وقدراته، كان انتخاب رونالد ريجان رئيساً عام ١٩٨١، وحتى ١٩٨٩، وانتخاب بطل كمال الأجسام والممثل أرنولد شوارزنيجر حاكماً لولاية كاليفورنيا عام ٢٠٠٣، وكانت السينما ونجومها السند الأكبر والداعم الأهم لوصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، وكانوا أيضاً سنداً مهماً لبيل كلينتون خلال رئاسته. وعلى النقيض كان صناع السينما غير راضين عن بوش الابن، ولا عن قراراته، وحروبه، وقدموا العديد من الأعمال التي تنتقد سياساته، بل إن فناناً مثل أوليفر ستون قدّم عن حياته وشخصيته فيلماً قاسياً، باسم «دبليو».
أما الرئيس الحالي، دونالد ترامب، فإن الحديث عن البغض والكراهية اللذين يتحكمان في علاقته بالسينما وصناعها، يحتاج إلى كتب، ومجلدات، لذا كان طبيعياً أن يدلي بتصريحه الأخير قبل أيام عن الأوسكار، وفوز الفيلم الكوري«طفيلي» بجائزته الكبرى، وأهم جوائزه الفرعية، عندما خاطب مؤيديه في تجمع انتخابي قائلاً «ألا تتفقوا معي أن جوائز أكاديمية فنون وعلوم السينما الأمريكية كانت سيئة هذا العام؟»، وقلّد ترامب مقدم الجوائز في الأوسكار مردداً «الفائز فيلم من كوريا الجنوبية إنه أمر لا يصدق». وبشكل غير مسبوق سيّس الجائزة بقوله «لدينا ما يكفي من المشاكل المتعلقة بالتجارة مع كوريا الجنوبية، ورغم ذلك نمنحهم جائزة أفضل فيلم لهذا العام».
الأوسكار أهم جائزة سينمائية في العالم، ومنذ سنوات وهي تنفي تهمة «تسييس قراراتها واختياراتها»، (وإن لم تصدق دائماً)، لكن أن يقحم رئيس الولايات المتحدة نفسه بشكل مباشر في النتائج، ويعترض بدعوى وجود مشاكل مع كوريا «الحليفة»، فهو الأمر الذي لا يجدر أن يصدر عن رئيس الدولة التي تروج لنفسها على أنها حامية حرية الرأي، والتعبير، والفن، والمنحازة لكل القيم الإنسانية، والإبداعية.
ترامب لم يكن مقصده الكلام عن الجائزة الكبرى والفيلم الكوري فقط، ولكنه تعمّد الإساءة للأوسكار الذي تتباهى به دولته أمام العالم، ووصفه للجوائز بشكل عام بالسيئة، هدفه الإلقاء بظلال من الشك على الجائزة والأكاديمية المانحة لها.
ولم يكتف ترامب بذلك بل هاجم أيضاً النجم براد بيت الحاصل على جائزة أفضل ممثل مساعد، رداً على سخريته منه خلال توزيع الأوسكار، ووصفه تبرئة مجلس الشيوخ لترامب من العزل بالتمثيلية السخيفة.
غضب ترامب ليس غريباً، فهو الرئيس الأكثر تعرضاً لهجوم الفنانين وسخريتهم عبر التاريخ الأمريكي، ومعظمهم لا يترك مناسبة إلا وينال منه تصريحاً، لا تلميحاً، في المؤتمرات والمهرجانات والحوارات التلفزيونية واللقاءات الصحفية، وعبر التغريدات التويترية.
التنافر بين أهل السينما وترامب بلغ القمة عبر توزيع قمم الجوائز الأمريكية، الأوسكار والجولدن جلوب، لتصل العلاقة بينهما إلى طريق مسدود سيتم التعبير عنه حتماً في أعمال تخلد هذا الغضب للأجيال المقبلة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"