عادي

فُكَّوا الأحزمة

23:15 مساء
قراءة 3 دقائق

د. يوسف الحسن

يكمن سِرّ شعبية بعض النخب السياسية والثقافية في قدرتها الخطابية الفائقة على إقناعنا بأن كل شيء على ما يرام، في الوقت الذي نعرف فيه أن كل شيء ليس على ما يرام.

وقد سألت ذات يوم خبيراً غربياً من أصول عربية، إثر سماعنا لخطاب سياسي، في مؤتمر دولي، عن رأيه في هذا الخطاب، فأجاب: بأنه «مدهش، لأنه يدعو لفك الأحزمة»، ورجعت للخطاب فلم أجد فيه إشارة واحدة إلى الأحزمة، «شدّها أو فكّها».

وحينما استفسرت منه عن ذلك، أفاض شرحاً في تفسير معنى فك الأحزمة، ولم أستوعب من تفسيره سوى مسائل الاطمئنان، فالعالم بخير، والإنفاق بلا حساب، ولعبة الكبار مضمونة نتائجها لصالح الكبار، والسلام على الأبواب، فلا داعي لبناء الملاجئ الحامية من النووي، أو حتى العودة إلى وضع «الكمامات» لتغطية الأنوف والأفواه، خشية عدوى أو دخان صاروخ بدائي.

قلت له: إن فك الأحزمة يعني أن الأوضاع في حوض الخليج وشرق المتوسط وأوراسيا آمنة، فلا مطبَّات هوائية أو بحرية، ولا أزمات مائية أو غذائية ولا حتى أزمات أخلاقية، ولا هُم يحزنون.

تجاهل صاحبي الخبير هذا التفسير، وسألني مخاطبة الأمين العام لجامعة الدول العربية، والطلب منه موافاتي بمجموعة خطب السياسيين العرب في العقود الأربعة الماضية. ولم أكذب خبراً، فلبيت طلبه، ووصلتني على جناح السرعة، بتجليد فاخر ولامع، وعكفت على دراستها وتفكيك بنيتها الخطابية، فاكتشفت، بعد الفحص والتمحيص، أنها متماثلة في معانيها، ومتشابهة في معظم الأحيان في مفرداتها، وفوجئت بأنها تدور حول النقاط التالية:

أولاً: إن أمتنا العربية تمر في مرحلة تاريخية عصيبة.

ثانياً: إن صبر أُمتنا قد نفد أمام ممارسات وسياسات الخصوم والقوى المعادية (لاحظ الطول الزمني غير المحدود للصبر العربي).

ثالثاً: إن التعاون والعمل الجماعي المشترك هما السبيل للتقدم والازدهار.

رابعاً: مناشدة العرب نبذ الخلافات التي هي سحابة صيف! (لاحظ أن العرب تناشد العرب).

خامساً: الدعوة ل«شد الأحزمة».

وبمراجعة مماثلة لخطب مجلس التعاون الخليجي، اكتشفت أنها مماثلة لكن لم أجد فيها ما يشير إلى «شد الأحزمة»، ربما لأن الخير وفير فلا داعي للتقتير، وربما لأن تعبير «شد الأحزمة» مرتبط بالحزام، الذي يُشد على «البنطلون»، وبالتالي لا حاجة له في معظم إقليم الخليج العربي، اللهم إلا في السفر بالطائرات، وهي أحزمة غالباً ما تظل مشدودة طوال رحلة الطائرة، وربما تظهر أحياناً لزوم «الخنجر العماني».

عدت إلى صديقي الخبير أزيده من الشعر بيتاً، وأقوله له: إن «فك الحزام» يعني الراحة والانشراح، وما شابه ذلك، فلا تواترت داخلية، ولا إزعاجات خارجية، ولا مناكفات إعلامية «ذبابية»، ولا مناطق رمادية، ولا معارك بين قبائل سودانية، أو حروباً بين عساكرها.

و«فك الحزام» يعني أيضاً الحياد، فلا تتدخل فيما يعنيك وما لا يعنيك، تحتفل في منزلك بوصول مسلم إلى رئاسة وزراء اسكتلندا، وتنوي تعليم حفيدك اللغة الصينية وباللهجة الماندرينية، وتتذكر أن شاه إيران كان شرطياً للخليج، وأن قواته العسكرية احتلت ثلاث جزر إماراتية، وقد تحتفل بذكرى معركة حطين، بدون أن تعرف فيما كان صلاح الدين الأيوبي محارباً أم مفاوضاً. ويمكنك أن تستلقي ضاحكاً من «ناقد أدبي»، لم يقرأ في حياته كتاباً في أصول النقد ومناهجه، وتصاب بالسأم من أحاديث سياسي غربت شمسه ولم تعد قصصه عن «الربيع العربي» ومآسيه ودوره فيه، مسلية؛ بل تدعوك للتثاؤب والضجر، إن لم نقل الغثيان.

تساءل الصديق الخبير عما أقصده من ربط «فك الحزام» بمسألة الحياد، وعدم التدخل في شؤون الغير، قلت له: يحمل الدولار الأمريكي شعاراً يقول: «نحن نثق في الله» باعتبار أن الشعب الأمريكي من الشعوب الغربية التي يمكن القول إنها «متدينة» إلا أنه متحرر من هذه المسألة دستورياً، ويظل شعار «الثقة بالله» مرادفاً للثقة بالدولار، وكانت أمريكا قد اختارت في بداية إنشائها شعاراً لعملتها حمل نصاً معناه «اهتم بأمورك الشخصية» Mind Your Own Business، أي لا تتدخل في شؤون الآخرين. وظل هذا الشعار موضع الممارسة الفعلية وإلى حد كبير، حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، حينما قررت أمريكا تغيير هذا الشعار، سواء على عملتها الورقية أو المعدنية أو في علاقاتها الدولية، وصار شعارها «نحن نثق في الله».

ولنتخيل جميعاً حال الدنيا، وخاصة في العالم الثالث، وفي حالة الحرب في أوكرانيا، لو بقي الشعار الأول مرفوعاً في سياستها الخارجية ومصكوكاً على عملتها الدولارية، من المؤكد أن «الحزام» كان سيظل مفكوكاً، رغم مطبات هناك أو هناك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/wdm9rb5r

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"