عادي

«الاستقلال الأوروبي».. أحلام فرنسية وعقبات أمريكية

23:03 مساء
قراءة 4 دقائق
ماكرون يتحدث الى الإعلاميين في متحف فن الطوب الأحمر في بكين(أ.ف.ب)

كتب بنيامين زرزور:

مرت ست سنوات منذ أن ناقش الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون علناً مفهوم السيادة في الاتحاد الأوروبي خلال خطاب ألقاه في جامعة السوربون في باريس. وغالباً ما يستخدم مصطلح الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي عند الحديث عن القدرة على التصرّف بشكل مستقل عن البلدان الأخرى في مجالات مهمة استراتيجياً على الأقل من وجهة نظر مركز القانون التابع للاتحاد.

تشتد الحاجة أوروبياً إلى بلورة رؤية قابلة للتنفيذ العملي في إطار خطة توافقية لمفهوم الاستقلال الاستراتيجي والسيادة في ظل التطورات المتسارعة على صعيد الاتحاد وأخطرها تلك التي تنذر بتشظّي الكتلة نتيجة اتساع هوة الخلاف في المنظور السياسي الخاص بالمستجدات لدى كل دولة عضو.

فأثناء رحلة العودة من زيارته الأخيرة للصين تحدّث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مرة أخرى مع وسائل الإعلام الدولية حول هذا المفهوم. وأدلى خلال المقابلة بتصريحات حول تايوان أثارت ضجة في الولايات المتحدة وأوروبا، وفُهمت كلماته على أنها دعوة للاتحاد الأوروبي إلى الحد من اعتماده على الولايات المتحدة، وتحذير من الانجرار إلى أزمة لا ناقة له فيها ولا جمل في تايوان.

أفكار تحتاج إلى تنفيذ

وفي وقت سابق من الأسبوع الماضي، قدّم الرئيس الفرنسي عينة أخرى من رؤيته لأوروبا ذات السيادة في خطاب ألقاه في لاهاي بهولندا ركّز على الجانب الاقتصادي لمفهوم الاستقلال الاستراتيجي. لكن هل يمكن تنفيذ أفكاره على أرض الواقع؟

استهدفت زيارتا ماكرون إلى الصين وهولندا الدوائر الدبلوماسية والرأي العام الفرنسي؛ إذ ربطها مباشرة بالقضايا الداخلية والخارجية من خلال «السيادة الأوروبية» التي من المقرر أن تصبح السمة المميزة لولايته الثانية؛ ففي بكين قدّمها على أنها «توءم الاستقلال الفرنسي». وقال في لاهاي: «لقد قررت أن أضع هذا المصطلح في قلب مشروعي السياسي».

وفيما يتعلق بشركاء فرنسا الأوروبيين فإنهم يعرفون جيداً أن باريس تحب أن تلعب دورها كمثير للمشاكل في الغرب. وحتى لو اختبر الأوروبيون طبيعة التقلّب في السياسة الأمريكية خلال رئاسة ترامب فلا يمكنهم تصوّر دفاعهم بعيداً عن حلف شمال الأطلسي. وهنا يميز الردع النووي الدور الفرنسي. وتشجع الصين من جانبها مشروع السيادة والاستقلال الاستراتيجي الأوروبي منذ اللحظة التي توترت فيها العلاقات عبر الأطلسي. أما بالنسبة لروسيا فلم يعد ذلك منطقياً بقدر ما يعتبر الكرملين نفسه في حالة حرب مع «الغرب مجتمعاً». وفي «الجنوب العالمي» هناك رهانات على الدور الأوروبي ككل في توفير فرصة للهروب من مخاطر التنافس الصيني الأمريكي، وتطوير منطق شراكة متحرر من أي شروط سياسية. إلا أن الولايات المتحدة تعتقد أن مستوى الدعم العسكري الممنوح لأوكرانيا يؤكد للأوروبيين المسافة التي لا يزال يتعين عليهم قطعها لإحراز النجاح -يوماً ما- في ضمان أمن جيرانهم.

البعد الأمني

تستند رؤية الاستقلال الاستراتيجي في صميمها إلى أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يستمر في ابتكار منتجات تنافسية من خلال العمل معاً بشكل وثيق في جميع أنحاء الكتلة، وهذا يقتضي وجود سياسة صناعية مشتركة من شأنها تعزيز دور الأسواق في تحقيق أهداف صافي الصفر، أو إنتاج الرقائق الدقيقة والتقنيات الحيوية الضرورية لضمان استقلالية أوروبا، وهنا لا يزال الاتحاد الأوروبي يعتمد على الصين كلياً.

ومما يعكس خطورة هذه التبعية اقتراح المفوضية الأوروبية مؤخراً قانوناً جديداً ينظم إنتاج واستيراد المعادن النادرة ومنها الليثيوم، والكوبالت، والنيكل لتصنيع البطاريات والسيليكون لأشباه الموصلات.

لكن العنصر الأكثر أهمية في مفهوم الاستقلال الاستراتيجي يكمن في البُعد الأمني. وقد طرح ماكرون منذ عام 2017 مبادرة إنشاء قوة تدخّل أوروبية مشتركة، وميزانية دفاع مشتركة، وعقيدة عمل مشتركة. لكنّ القادة الأوروبيين استفاقوا في فبراير/ شباط 2022 على حقائق جديدة تمس السيادة الأوروبية. وقد أعلنوا عن رغبتهم في تعزيز القدرات الدفاعية وزيادة قدرتهم على التصرف بشكل مستقل مع الاحترام الكامل لالتزامات الناتو. ومنذ بدء الحرب زادت دول الاتحاد الأوروبي الإنفاقَ الدفاعي ودعمت أوكرانيا بالأسلحة والذخيرة.

لكنّ باحثين في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية يقولون: إن المسار الذي طرحه ماكرون غير واقعي، ولا يحظى بالقبول. ويعتقد هؤلاء أن فكرة الاستقلال الذاتي في العلاقات الدولية هي «أوهام». وما يقصده الرئيس الفرنسي لا يتعدّى فكرة الاستقلال عن التبعية الأمريكية.

انقسام أوروبي

هناك من يعتقد أن هذا الانفصال خطر على القارة التي تفتقر عملياً إلى القدرات اللازمة للدفاع عن نفسها، ولكنها أيضاً بحاجة إلى تعزيز قدرتها على المنافسة عالمياً بالطريقة التي يبدو أن أجندة ماكرون الخاصة بالاستقلال الاستراتيجي تشير إليها؛ فمن الناحية النظرية تملك أوروبا أعداداً هائلة من الدبابات والجنود لكنها سوف تفتقر إلى ما يسمى عوامل التمكين الاستراتيجي لوضع تلك القدرات في مكانها الصحيح إذا ما قررت القارة التحرك بمفردها. وهنا يجب ألا ننسى الترسانة النووية الأمريكية التي كانت بمثابة ضمانة أمنية أو الملاذ الأخير والرادع ضد القوى النووية الأخرى.

بقيت الإشارة إلى أن أوروبا لا تملك استراتيجية جاهزة للتعامل مع العالم وليس لديها الرؤية الموحدة عندما يتعلق الأمر بمشاكله؛ فبعد تصريحات ماكرون مباشرة تساءل العديد من السياسيين وعلى رأسهم ماركو روبيو -المرشح الرئاسي السابق والسيناتور الجمهوري الحالي من فلوريدا- علانيةً عما إذا كان الرئيس الفرنسي يتحدث نيابة عن الاتحاد الأوروبي أم عن فرنسا فقط.

وبينما امتنعت مفوضية الاتحاد الأوروبي عن التعليق على تصريحات ماكرون بشأن تايوان قال رئيس الوزراء البولندي ماتيوز موراويكي عشية رحلة قام بها إلى الولايات المتحدة الأسبوع الماضي: إن التحالف مع الولايات المتحدة هو «ركيزة لا غنى عنها» للاتحاد الأوروبي.

في المقابل يسعى ماكرون إلى تعويم فرنسا كقوة عظمى أوروبياً من خلال التركيز على شعار أوروبا الموحدة، ومن ثَم التظاهر بأن مصالح فرنسا هي نفس مصالح أوروبا.

وهكذا يمكن لخطة ماكرون أن تقوّض أوروبا استراتيجياً وتزيد من انقسام أعضائها المنقسمين أصلاً بين الداعين إلى تحويل أوروبا إلى قوة عالمية وبين الأطلسيين الداعين إلى علاقات أوثق مع الولايات المتحدة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yz77rbnt

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"