حول ما يسمى “عقيدة أوباما”

02:58 صباحا
قراءة 4 دقائق
انتخب باراك أوباما في خريف العام 2008 بناء على وعوده بالانسحاب من العراق وأفغانستان . وبعد أن أتم الجيش الأمريكي انسحابه من العراق، في انتظار الانسحاب من أفغانستان، فإن أوباما لا يود العودة إلى العراق مجدداً وبالطريقة نفسها التي اعتمدها جورج بوش في العام 2003 . وهو في سوريا تفادى التدخل العسكري، رغم "الخط الأحمر" الكيميائي الذي وضعه ضد النظام السوري، الأمر الذي أضعف هيبة أمريكا ومصداقية رئيسها .
لكن تقدم "داعش" في سوريا والعراق وممارساتها ضد الأقليات التي رآها العالم أجمع عن طريق وسائل الاعلام والاتصال، إضافة إلى تهديدها لأربيل، حيث يقطن خبراء أمريكيون، خلق وضعاً جديداً أجبر واشنطن على التدخل العسكري، ولو من خلال الضربات الجوية من دون الانخراط في معارك عسكرية برية .
وللتذكير فإن نجم الجماعات التكفيرية بدأ بالسطوع في العامين 2012 و،2013 رغم ذلك بقي الرئيس أوباما على قناعته المعلنة بأنها ليست سوى عصابات تتقاتل في ما بينها، وغالباً لأسباب عرقية ودينية، من دون أن تشكل أي تهديد للولايات المتحدة ومصالحها . وفي الوقت نفسه استمر في رفضه تسليح المعارضة السورية المعتدلة خوفاً من وقوع الأسلحة الأمريكية المتطورة في قبضة الجماعات التكفيرية، الأمر الذي حصل بالفعل في الهجوم الداعشي على الموصل .
هذا الرفض أضعف المعارضة المعتدلة، مما ترك فراغاً في الميدان نجح المتطرفون في ملئه، كما تقول هيلاري كلينتون في مقابلة مع مجلة "ذي اتلانتيك" وفي كتابها الأخير "خيارات صعبة" حيث تنتقد سياسات أوباما حيال سوريا .
مع الوقت اشتد عود هذه الجماعات المتطرفة على حساب المعتدلين إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه بين الرقة والموصل . والمشكلة أن أوباما يحمّل العراقيين المسؤولية عما حصل في بلادهم بعد انسحاب قوات الاحتلال (في مقابلة مع توماس فريدمان في "النيويورك تايمز" الشهر الماضي)، متناسياً أن بلاده هي المسؤولة عما حل بالعراق من خراب بدأ بالغزو الأمريكي في العام ،2003 وما قام به المحتل من حل للجيش والمؤسسات، وما فرضه من نظام سياسي يضمن الاضطراب المديد .
لقد اضطر الرئيس الأمريكي إلى التدخل ضد "داعش" بعدما انهالت عليه الاتهامات والانتقادات من الجمهوريين في الداخل والحلفاء في الخارج، لكن هل يمكن اعتبار تدخله هذا تغييراً في "عقيدته" لا سيما تلك المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط؟
على الإطلاق، فمثل هذه "العقيدة" ليست موجودة إلا في تحليلات المراقبين الذين اعتادوا أن يكون لكل ادارة أمريكية عقيدة تميزها عن سابقاتها . والرئيس أوباما لم يقل يوماً بأنه ضد اللجوء إلى القوة، بل إنه نظّر لها في خطابه أمام البرلمان النرويجي لدى استلامه لجائزة نوبل في العام ،2009 مستشهداً بعالم السياسة واللاهوت الأمريكي رينهولد نيبور . وهو أكثر الرؤساء الأمريكيين استخداماً لطائرات "درون" من دون طيار في عمليات القصف والاغتيال، وذلك بهدف إبعاد حياة الجنود الأمريكيين من دائرة الخطر . وهو دعم تدخل حلفائه في ليبيا للإطاحة بالقذافي، وساهم في ذلك مبرهناً بالفعل أنه يفضل الاعتماد على التحالفات بدل الانفراد بالقرار كما كان يفعل سلفه جورج بوش .
لقد رسم أوباما ملامح "عقيدته" في مناسبات وخطب عدة . وهو أكد مراراً عدم تخليه عن الزعامة الأمريكية كما يتهمه خصومه . لكن هذه الزعامة، في نظره، لا ينبغي أن تعتمد دوماً على الوسائل العسكرية . وفي هذا الصدد يقول: "ليس لأن لدينا أفضل مطرقة تضحي كل المشاكل مسامير"، فهو يلجأ إلى "القوة الذكية" المعتمدة على الحلفاء والأمم المتحدة والدبلوماسية الاقتصادية، ما يسميه عالم السياسة الأمريكي جوزيف ناي بالخلطة الناجعة ما بين "القوة الناعمة" و"القوة الصلبة" .
الائتلاف الدولي الذي يقوده أوباما ضد داعش في العراق وسوريا بناء على الاستراتيجية التي أعلنها في هذا السياق، والقائمة على الضربات الجوية من دون نزول جنود أمريكيين إلى ساح الوغى والاعتماد على الحلفاء، لاسيما العراقيين والبشمركة، في حرب قد تطول لسنوات قدرها الأمريكيون بثلاثة وآخرون ربما بعشرة، مع اتخاذ القرار بدعم المعارضة السورية تسليحاً وتدريباً . . إلخ . لا يشكل تغييراً في "عقيدة أوباما" بل تكيفاً مع أوضاع مستجدة من ضمن هذه "العقيدة" .
لقد فهم أوباما بأن مركز الثقل العالمي ينتقل إلى آسيا، من هنا "الاستدارة" نحوها بغية احتواء الصعود الصيني هناك، لاسيما أن الاكتشافات النفطية الصخرية في الولايات المتحدة ستجعلها تستغني عن نفط الشرق الأوسط . لكنه بذلك أغفل قدرة البنى القديمة على الصمود والدور المركزي الذي لا تزال تحتله أوروبا في العلاقات مع روسيا، أو المكانة المركزية للصراع "الإسرائيلي" -الفلسطيني في العالم العربي . لذلك فإن أوباما يحاول دوماً أن يقف في الوسط ويمارس سياسة هي توليفة ما بين الانخراط والعزلة، والتقدم والتراجع، في بحثه عن موقع لبلاده يتفق مع قدراتها ومصالحها وما ينتظره حلفاؤها منها .
لكن هذه السياسة المترددة وغير الواثقة من نفسها أخفقت في كل الميادين تقريباً، مع روسيا وأوكرانيا والعراق وسوريا والصراع "الإسرائيلي" - الفلسطيني . فقط مع ايران ينتظر أوباما أن يحقق شيئاً يفاخر به في الوقت المتبقي له من الحكم .

د . غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"