عادي
قرأت لك

«رسائل عشاق»... غابة من السرد المتشابك

19:45 مساء
قراءة 4 دقائق
فتحية النمر - الغلاف

الناشر: الدار المصرية اللبنانية

الشارقة: علاء الدين محمود

رواية «رسائل عشاق»، لفتحية النمر الصادرة في طبعتها الأولى عن الدار المصرية اللبنانية، عام 2023، هي آخر الكتابات السردية التي قدمتها المؤلفة للقراء، وهي رواية طويلة تقع في 407 صفحات من القطع الكبير، وتنتمي إلى أسلوب النمر في رصد المجتمع وتحولاته ومنعطفاته من خلال سيرة شخصية. وفي هذه الرواية، تحتفي النمر بالمعنى، لكنها تجعله بعيد المنال، بحيث لا يصل إليه المتلقي إلا عبر خوض مغامرة القراءة كاملة، وهي العملية التي تظل فيها المتعة حاضرة.

السرد لا يخلو من التكثيف، والمفارقات، والغموض الذي يحترم القارئ في بعض المواقع، ونجد ذلك الأمر واضحاً في أعمال شهيرة للكاتبة مثل: «السقوط إلى أعلى»، و«فتنة الداعية»، و«رسائل بلا عنوان»، وغيرها من أعمال اتسمت بصورة واضحة بالجرأة.

أحداث هذه الرواية جرت في «أزمنة بعيدة»، فعلى الرغم من أن الأحداث الفعلية للرواية تبدأ في زمن معلوم، وهو العام 1980، برواية أحد بطلات الحكاية، إلا أن خطوط الزمن تتقاطع في هذا العمل، حيث يبرز صوتاً ليروي أحداثاً جرت في أزمنة سابقة بعيدة، وذلك يؤشر على أن الوقائع في العمل السردي لها جذور في الماضي، غير أن اللافت في الرواية أنها تستنفر النشاط الذهني لدى القارئ، حيث يقوم السرد على فجوات وفراغات يترحل فيها المتلقي ليصنع الصور الذهنية ويمارس فعل الربط بين الأحداث وتأويل الدلالات.

* حكاية

في حكاية «رسائل عشاق»، نطالع قصة تتكون من أب يعمل في مهنة الصيد، وهو بطبيعة الحال من الفئات الاجتماعية الدنيا، حيث يعمل أجيراً في تلك المهنة، وله زوجة واثنان من الأبناء، ويقوده الطموح نحو الاستقلال عن مالك العمل، بعد أن اشترى مركبين، ليدخل في عالم التجارة بمساعدة ولده الكبير، وتتفتح أمام هذا الرجل آفاق جديدة، حيث سافر نحو إفريقيا، ليعود بغلة وفيرة من المال، لتتغير حياته، ويتزوج من امرأة أخرى، هي ابنة صديق له من الحي، وهي فتاة صغيرة جميلة كان ابنه الأكبر يخطط للزواج بها، فتغيرت بسببها أحوال الأسرة، فأصبح الأب سلبياً لا يهتم بأسرته، وأصبحت الزوجة الأولى حاقدة ناقمة على ضرتها وزوجها وتتربص بهما، وأصبح الابن الأكبر شبه مجنون ويريد أن ينتقم من أبيه بكل وسيلة، فانقلبت حياة هذا البيت إلى جحيم لا يطاق، ومن هنا يبدأ نسق الرواية في الارتفاع لتصل الذروة عبر أحداث مأساوية شهدتها الأسرة، ونلاحظ في العمل الحضور الكبير لقضية المرأة، حيث كان لكل شخصية نسائية في العمل قصة مثلت خيوطاً متناثرة شكلت جزءاً من قوام الحكاية الرئيسية.

عنوان الرواية «رسائل عشاق»، كعتبة نصية تفضي إلى موضوع العمل وأجوائه، يحيلنا إلى عوالم جمالية وعاطفية، ولكنها خاصة في ذات الوقت، إذ إن رسائل العاشق هي مساحات سرية، وشديدة الخصوصية، وهي المادة التي تنسل منها خيوط السرد وتتشابك لتصنع قماشة العمل الروائي، لذلك كان الاختيار موفقاً، لكنه في ذات الوقت يحمل دلالات أخرى، فهي ليست رسائل «العشاق» بالألف واللام، بل تحكي عن أشخاص معينين، وفي ما يبدو أن الكاتبة لم ترد أن تفصح عن كل شيء في العنوان حتى لا يتوقف المتلقي كثيراً في لحظة واحدة من السرد، وربما لن يستطيع القارئ أن ينتبه إلى دلالات هذا العنوان إلا بعد أن يفرغ من آخر جملة في الرواية.

* عوالم خاصة

أرادت الكاتبة من خلال السرد، أن تنفذ نحو عوالم خاصة، وأقبية سرية، من أجل أن تفكك العلاقات الاجتماعية والثقافية بصورة أكثر جلاءً ووضوحاً، لذلك نلاحظ أن المؤلفة حاولت أن تتعمق في المقصي والمبعد في تلك العلاقات، وهي بذلك تجاوزت فكرة التحليل والتفسير نحو آفاق أبعد، لتقدم من خلال هذا التجاوز، موقفاً خاصاً بها، إلى جانب البعد الجمالي، وهي تقول عن عوالم الرواية وأحداثها: «في ذلك المكان والزمان البعيدين اليوم جدّاً عن أفق النظر والسمع، ومن خلال الأحداث المرتبطة بشخصيات الرواية وصراعاتها الداخلية ومصائرها التي تتقاطع بشكلٍ درامي يمنح العمل مزيداً من الإثارة، ومن خلال التصاعد الدرامي المتشابك، نتعرَّف بشكلٍ عام إلى شكل وطبيعة الحياة في دولة الإمارات، وبشكلٍ خاص في قرية الصيادين بإمارة الشارقة حيث تدور أحداث الرواية».

الرواية كُتبت باللغة العربية الفصحى، على مستوى السرد العام، والحوارات، وكان في الإمكان، نظراً لموضوع العمل، أن يستعين المؤلف بالعامية الإماراتية جهة الحوارات، حتى تقرب الكثير من الأفكار إلى القارئ المحلي، فالقالب الاجتماعي للرواية يجعل اللهجة المحلية هي الأقرب، ليس إلى قلب المتلقي فقط، بل وكذلك في التعبير عن مجرى الأحداث والوقائع الاجتماعية.

* صراع

حفلت الرواية بالكثير من اللفتات والتفاصيل التي تكشف عن حجم الصراع في العمل، والتي تدور بين عوالم ومشاعر متباينة ومتناقضة، ونقرأ في إحدى مقاطع الرواية: «كانت خيوط الفجر تشعشع، وتفصح عن تفاصيل البيت الغارق في الجلبة والصراخ والتأهب، بيت تتصارع فيه عواطف الدنيا بألوانها المختلفة، وكل المشاعر التي عرفها الإنسان في حياته من الحب والكره والتعاطف والرغبة في الانتقام، الفرح والحسرة، الحياة والموت»، وفي مقطع توصيفي بديع وكاشف نقرأ: «البيوت الحالية غير متلاصقة، بل متجاورة ومتباعدة»، وذلك المقطع يحمل دلالات تؤكد براعة الكاتبة، فهي تشير إلى غياب الحميمية القديمة، وبروز شكل من أشكال التشظي والتباعد الوجداني والاجتماعي.

وتقول الكاتبة عن الرواية: «كل أعمالي كانت عن المجتمع المعاصر والإنسان المعاصر، لكنني لاحظت في السنوات الأخيرة أن منظومة القيم والعادات والتقاليد بدأت تخمد في مجتمعنا، ونحن لنا هويتنا وجذورنا التي لا غنى لنا عنها، وينبغي أن نحسن اختيار ما في تراثنا، وأن نسائل هذا التراث، ونسلط الضوء على ما فيه من قيم إيجابية، ونختار منه بوعي ما يؤكد قيمنا ويعزز هويتنا، وقد شرعت من جانبي في هذه الممارسة المبنية على تشريح المجتمع التقليدي سردياً».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3hy8urph

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"