أحلام التوابيت العائمة

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

يندر أن يمر شهر أو شهران أو ثلاثة، على أبعد تقدير، دون أن نسمع عن كارثة جديدة، ضحاياها هؤلاء المهاجرون المساكين الهاربون من جحيم الحياة في أوطانهم، ليلقوا بأنفسهم في البحر، أملاً في الوصول إلى شواطئ أمان تكفل لهم أبسط سبل الحياة الإنسانية، وكأنهم في رحلة بين موتين.

وعلى الرغم من أن رحلات الخلاص هذه لا تختص بجنسيات محددة، لكن المؤسف أن أغلب ضحاياها من الدول العربية، التي تشهد صراعات سياسية أو نزاعات مسلحة، في ظل حالة من الفقر والبطالة، تدفع بالآلاف بل مئات الآلاف من الشباب إلى التفكير في الهجرة بأي وسيلة، لدرجة أن الكثير منهم يضع كل مدخراته المالية، وربما يلجأ إلى الاستدانة لكي يخوض تجربة الهجرة غير الشرعية، على مراكب متهالكة أشبه ما تكون بتوابيت عائمة، يحلم ركابها بفرص أفضل للعيش، لكن هذه الأحلام سرعان ما تقودهم ليس إلى عوالم أفضل وإنما إلى الموت، بعد تحطم وغرق تلك التوابيت العائمة التي يركبونها ليضاف الكثير منهم إما إلى قوائم الموتى أو المفقودين، بسبب تكدسهم في قوارب خالية من أي مقومات للسلامة، فضلاً عن تحميلها بما يفوق طاقتها الاستيعابية، بسبب جشع تجار الموت الذين ينظمون هذه الرحلات المشبوهة والقاتلة في أغلب الأحيان، بعد أن باتت بعض الدول العربية مع الأسف مراكز جذب لآلاف الناس الراغبين في الهجرة من بلدانهم نحو أوروبا؛ حيث ينتشر سماسرة الموت وتجار الأوراح، مستغلين أحلام الكثيرين في حياة أفضل اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، مع تفاقم معدلات البطالة؛ حيث بات حلم الهجرة طوق النجاة لكثير من المهاجرين الذين يتركون خلفهم واقعاً مريراً وماضياً أليماً يلاحقهم حتى في أحلامهم، فيظنون أنهم بهجرتهم هذه سيبدأون حياة جديدة في مجتمع جديد، قبل أن تصدمهم الحقيقة.

وبسبب تزايد الطلب على الهجرة، وجد سماسرة الموت ضالتهم في نهب هؤلاء المساكين وبيعهم الأوهام، قبل أن يلقوا بهم وبأسرهم أحياناً في عرض البحر، في رحلة محفوفة بالخطر والمغامرة ستترك ولا شك ذكريات موجعة وكوابيس مزعجة، ستعيش معهم بما تبقى لهم من أيام في هذه الحياة، هذا إن كُتبت لهم النجاة، والوصول إلى الشواطئ الأوروبية؛ حيث تنتظرهم فصول جديدة من المعاناة والقهر، قبل أن يشعروا ولو بقليل من الاستقرار في بلدان المهجر.

صحيح أن الهجرة ظاهرة إنسانية بدأت مع ظهور الإنسان نفسه، بالانتقال من مكان إلى مكان أفضل، كان سائداً منذ القديم، لكن مع الأسف، فإن للهجرة في منطقتنا العربية جملة من الأسباب، ربما كانت موجودة سابقاً وبنسب قليلة، لكن ظهرت موجات الهجرة إلى أوروبا بهذا الوضوح منذ عام 2001 و2003 بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق؛ حيث شكّل المهاجرون العراقيون والأفغان الرقم الأول للهجرة إلى أوروبا، إضافة إلى الأفارقة، لكنه بعد عام 2011 وأحداث ما سمي ب«الربيع العربي» الدامية، حاول الملايين الهجرة نحو أوروبا، مفضّلين اللجوء إلى هذه الطريقة الخطرة والقاسية في الهجرة، بعد أن تساوى لديهم الموت والحياة، وباتت الهجرة عبر البحر وسيلة وخشبة الخلاص الوحيدة بالنسبة إليهم، بعد أن ضاقت بهم الحياة في بلدانهم.

والحادث المأساوي الذي وقع مؤخراً قبالة الشواطئ اليونانية، قد يكون من أكثر صور المأساة وضوحاً؛ حيث مات العشرات ممن كدّسهم تجار الموت على قارب صيد، حمل على متنه مئات الأشخاص بينهم سوريون وفلسطينيون ومصريون وباكستانيون، وفقد الكثيرون، وهذا ليس سوى سطر جديد في هذا المسلسل الدامي الذي يستمر مع الأسف أمام سمع وبصر العالم الذي يدعي الحضارة واحترام حقوق الإنسان، والذي لم يحرك ساكناً أو يتخذ مواقف جدية وفاعلة لوقف هذه الجرائم التي ترتكب بحق هؤلاء الضحايا من الهاربين من جحيم الحياة في أوطانهم إلى رحلات الموت، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم أياً كان موقعهم، وإيجاد وسائل لتوفير أبسط سبل الحياة لهؤلاء في أوطانهم، أو على الأقل تنظيم موجات الهجرة هذه، ووضع خطط دولية للتعامل مع هذه الظاهرة المؤلمة بشكل جدي فاعل، لاسيما أن الكثير من هؤلاء المهاجرين هم من الشباب، تستطيع الدول التي تستضيفهم الاستفادة من طاقاتهم وإمكاناتهم، بدلاً من موتهم المجاني في البحار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdvhcfyd

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"