الحرب.. والشر الأخلاقي

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

الحرب هي الكلمة التي تمثل النغمة النشاز في سِفر الواقع الإنساني السوي، فهي تشق الكراهية أنهاراً، والتدمير حقولاً باتساع المدى، ما انفك العلماء والباحثون عن ثنائية الحرب والسياسة، يتوقفون عن كُنه العلاقة بينهما، وهي علاقة شغلت الكثير من المفكرين وجعلتهم يرفعون البحث إلى سؤال عن جدوى قيام هذه الحروب، وعن غايتها السياسية وطبيعتها.

 لقد صدرت عدة دراسات تتحدث عن حروب كانت بالأحرى مجازر عبثية، ومن المذهل أن جزءاً أساسياً من عنف الدراسات، يبدو من خلال وصف مؤلفها الجنود السائرين مهزومين ضائعين، لم تبق لديهم في أجسادهم قطرة ماء، يمكن أن تتحول إلى دمعة؛ بمثل هذه العبارة تحدث المفكر ادوارد غاليانو في كتابه «ذاكرة النار» عن الحروب، أن الشر لا يقتل الشر، كما أن النار لا تطفئ النار، ذلك أن خبايا الفعل السياسي للحرب لا تموت، بل تظل حاضرة ومرهونة بعودة الاستخدام في حال كانت الأخلاق مغيّبة.

 من هنا جاء الشر، مع أن الإنسان على وعي بالقانون الأخلاقي، لكنه يتخذ لنفسه مبدأً هو البعد عن هذا القانون الأخلاقي واللجوء إلى الحرب، وهو الشر المطلق، هذا الشر والرغبة في شنّ الحرب بين أبناء الشعب الواحد تنشأ عن نقص وعدم رضا بالحالة الراهنة؛ فكل رغبة إذن تؤدي إلى الألم نتيجة ما يعج في اللاشعور من عوامل تدمير للنفس، والأنانية وسوء استعمال الإرادة الأخلاقية. وهذا من شأنه أن يدمر الوطن، ويحيل الحياة على الأرض إلى موت وأشلاء، إن صحت تسمية حياة الشعوب التي تعاني الجهل والفقر والمرض حياة.

 هذا الشر ثمرة فاسدة نتجت عن تجاوز الإنسان لما تقتضيه الطبيعة، وتجاوز العقل لحدوده بهدف سيادة الإرادة الشريرة على ملكتي النفس، وهما العاطفة والعقل. والإرادة إذا سادت في الإنسان اتصف بالقدرة على القيام بالأعمال الخطيرة، لأن هذه الإرادة لم يحكمها العقل، فهي إرادة مندفعة لا تعرف لها غاية معلومة، وعاجزة عن القيام بالأعمال السامية، إرضاءً للنعرة الفوقية والإشباع للنزعة التفاخرية الواهية التي يرمي من ورائها أن يعبث بمقدّرات الناس وأرواحهم إلى الفناء والهاوية، فهي حالة نفسية سيكوباتية عنيفة، والشخصية السيكوباتية تعشق وتلتذ بالسير في الاتجاه المعاكس، يسيطر عليه دائماً اللاوعي. ولا يدرك أن الحياة، حياة الآخرين نفسها قيمة عليا في ذاتها. أو أن الإنسان عبارة عن تطور وصيرورة دائمة، ولا يجوز تدمير هذا التطور في حرب عبثية بواسطة أشخاص لديهم نزعة العقل الجاف المجرد التفكير كالعقل السيكوباتي التائه في الديالكتيك والأقبية العقيمة.

 إن الأهداف العليا بالقدر الذي تتفق فيه الإرادة الخيّرة مع إرادة العقل، والمبادئ التي يجب أن تحكم المجتمع، الحق والعدل، ضماناً لحماية الناس من الخراب والدمار والفتنة، أو الاعتداء على أقدس ما في الحياة وهي إزهاق أرواح الناس وإعدام الحياة، أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضلل الناس وتفسدهم، عندما يقتل الإنسان أخاه الإنسان في حظائر الحرب.

 إنها الحرب، وحين يتأمل المفكرون في موضوع السياسة وعلاقتها بالحرب، يطرحون أسئلة؛ لماذا يفعل البشر ما يفعلون من قتل وتعذيب وكراهية، بعضهم تجاه البعض؟ وكان جوابهم أن كل نظرة سياسية سوية إلى العالم لن تبنى في النهاية انطلاقاً من حقد الإنسان على أخيه الإنسان. ومن هنا كان منظور فهم السلوك الإنساني يعتبر أن البيئة أو الموقف المحيط بالفرد هو العامل الأكثر أهمية في تشكل سلوك البشر، وأن النظرية النزوعية هي سمات الشخصية التي تتصف بالغرابة والشذوذ النفسي والعنف، وهي نتاج الظروف البيئية المحيطة بالفرد من أشكال العنف التي ترتكب بطريقة دراماتيكية جامحة، لا تلجمها الأعراف وتتبعها غريزة شرسة، تكون هذه النزوات أدوات لتمزيق نسيج البقاء، ومقومات الحياة، وكل الرغبات في الانعتاق والزج بالأوطان والشعوب في أتون حرب خاسرة مدمرة، وتحريض أبناء الوطن الواحد على التمرد على بعضهم، وليس أتفه من الحياة حينما يصبح البشر حطاماً طافياً على محيط الضرورة، ويتسابقون وتيارات العدم نحو باحات المقابر، وليس أتعس من واقع تصبح فيه الشعوب كقطع الشطرنج في لعبة على رقعة الزمن، بين صحوة عقل وجنون الطغاة. وليس أشد إثارة للحزن من خروج السلوك السياسي من قبضة الحق والمنطق وقيود العقل ورقابة الضمير، وطمس الحقيقة عن الفكر إلى طمس الحقيقة وخواء الفكر، بل إلى ذبول الحياة، وغياب العدل، وضمور العقل، وموت الإنسانية على عتبات الجشع وعبادة الذات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yjm6nwn8

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"