وفي الدول الكبرى متمردون أيضاً

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

الدول الكبرى أيضاً في مرمى الخطر، فما يهدد كيانات الدول لا يرتبط فقط بحجم مساحتها وعدد سكانها ولا بعديد جيشها وحجم وقدرات ترسانتها العسكرية، ولكن الأهم توحُّد جبهتها الداخلية ويقظة أجهزة مخابراتها وحنكة قادتها وقدرتهم على اتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب، بصرف النظر عما يمكن أن يثيره القرار، من قيل وقال في الإعلام العالمي ومواقع التواصل الاجتماعي، وفي التاريخ امبراطوريات اندثرت ونال منها الخطر ولم تعد موجودة إلا بضع صفحات في كتب التاريخ. 

 روسيا، هي الدولة الأكبر مساحة عالمياً، والقوة الأولى نووياً، وجيشها ثاني أقوى جيش، ووريثة إحدى القوتين العظميين في العالم، وأحد المنافسين على تبوُّؤ عرش القوة والقرار في العالم، ورغم كل ذلك فقد اهتز عرش قيصرها وتزلزلت جغرافيتها وانتشر القلق في أوصالها وبين مواطنيها، بعد أن أعلن يفيغيني بريغوجين قائد «فاغنر» التمرد على الدولة وقيادتها السياسية والعسكرية، واستولى على «روستوف» إحدى مدنها الكبرى والاستراتيجية حيث مقر القيادة العامة الجنوبية للجيش ومنه تدار معركة أوكرانيا، بل وبدأ الزحف بقواته إلى العاصمة موسكو، وهو الزحف الذي لم يكتمل، بعد أن استوعب الرجل رسالة بوتين الغاضبة والتي وصف ما يحدث ب«الخيانة العظمى» و«الطعنة في الظهر». 

 بريغوجين خدعته قوة وسمعة «فاغنر» عالمياً، وأصابه الغرور مثل غيره من قادة الميليشيات وزعماء المرتزقة حول العالم، فتجاوز في حق وزير الدفاع ورئيس الأركان علناً، وانتقد أداءهما في حرب أوكرانيا، ولم يجد من يوقفه عند حدّه. وبعد أن تمكن منه جنون القوة أعلن التمرد، ورغم أنه لم يتجاوز في حق الرئيس بوتين إلا أن بيانه حمل تهديداً له ولكل السلطة، كما أن احتلاله مقارَّ عسكرية واستيلاءه على مدينة حيوية وتحريك قواته باتجاه العاصمة كان هو التهديد الأكبر لروسيا، وبعد أن تحدث معه الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو، أفاق وأدرك أنه يلعب بالنار وسيكون أول المحترقين فيها، فكانت الصفقة التي يخرج من خلالها إلى بيلاروسيا ويتم إسقاط التهم الجنائية عنه، ليصدر أوامره على الفور بوقف التحرك نحو موسكو ويضع نهاية لأفكاره الشيطانية.

 بوتين وقع في الخطأ عندما ترك التوتر بين بريغوجين وقادة الجيش يستفحل ويتجاوز الحد من دون تدخل منه، ولكن يبدو أن إرادته كانت ترك بريغوجين يمضي في غيّه حتى يلف حبل المشنقة بنفسه حول رقبته، وحنكة بوتين أيضاً وقدرته على المناورة واستيعابه أن المواجهة بين قوات «فاغنر» وقوات الجيش ستسفر عنها حمامات دم، وستحول روسيا إلى دولة هشة، لذلك أحبط الانقلاب وأنهى التمرد، ولعله أقصر تمرد في العالم، أسال لعاب الغرب لساعات، ليهرول قادته ودبلوماسيوه ليضعوا سيناريوهات لعالم جديد ليس فيه بوتين. 

 لا يمكن إنكار أن هذا التمرد زرع شكوكاً عند الشعب الروسي، وأثار بلبلة، ولكن سرعة احتوائه من دون إراقة نقطة دم واحدة ستضيف إلى رصيد بوتين، وستزيد الالتحام بين الشعبين الروسي والبيلاروسي، وقد يكون إنهاء ازدواجية القيادة العسكرية بين وزير الدفاع شويغو، وزعيم فاغنر بريغوجين وضمّ من يريدون من عناصر فاغنر للجيش قد يساهم في سرعة إنجاز المهمة العسكرية الروسية في أوكرانيا ويضع نهاية لهذه الحرب بعد إغلاق منافذ الاختراق الغربي للقرار العسكري الروسي. 

 ما حدث في روسيا وما يحدث في محيطنا، يؤكد أن توحيد القوة العسكرية تحت مظلة الجيوش الوطنية هو الضامن الوحيد لعدم إشهار أشقاء الأوطان أسلحتهم في وجه بعضهم بعضاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mrycnfmc

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"