الإصرار على التصادم الحضاري

00:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

ليس جديداً أن تتم عملية حرق المصحف الشريف في دولة أوروبية، وليس جديداً أن تصدر تلك الآراء التي تتحدث عن أنّ ذلك لا يُعد جريمة قانونية ويدخل ضمن حيز حقوق التعبير. فقد سبق وأن تمت الإساءة إلى المقدسات الإسلامية مرات عديدة وتتم يومياً الاعتداءات على الأماكن المقدسة للمسلمين في فلسطين المحتلة ولا أحد يتحرك من أجل وقف تلك الاعتداءات.

عندما صدر كتاب «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكوياما، وكتاب «صدام الحضارات» لصامويل هنتنغتون، كان العدوّ الأول للحضارة الغربية، هو الحضارة الإسلامية العربية، وقد تمّ تصوير أتباع هذه الحضارة بأنهم أناس متوحشون ولا بد أن يتم القضاء عليهم، حتى تكون القرية العالمية الجديدة التي تم التبشير بها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، قرية خالصة للجنس الأبيض الراقي. ومثل هذه الأفكار ليست جديدة، فألبير كامو الكاتب الفرنسي المولود في الجزائر كان يصور الجزائريين وحوشاً يجب القضاء عليهم. 

الحقيقة أنّه ليس كل الأوروبيين يحملون هذه الأفكار العنصرية ضد الإنسان المختلف عنهم لوناً وثقافة وديناً، ولكن أصحاب النظرة الإنسانية الشاملة ليسوا مؤثرين بدرجة كبرى في القرار السياسي الأوروبي، ولذلك نجد أن النظرة المسيطرة هي النظرة الاستعلائية التي تكرس في المواقف السياسية والإعلامية للجماعات النافذة، مثل هذه الجماعات التي تسيء للمقدسات وجماعات المثليين وغيرهم ممن لا يؤمنون بالتنوع الثقافي. ولا يختلف القرار السياسي عن هذا المسار، فالأوروبيون هم شعوب استعمرت مناطق ونهبت خيراتها وهم مسؤولون عن استمرار التخلف والفقر في تلك الدول التي تركوها أرضاً يباباً، ومع أنهم يتحملون مسؤولية قتل مئات الملايين من الأبرياء أثناء حروبهم الاستعمارية، ومع أن خزائنهم ملأى بالذهب والألماس وكل المعادن النفيسة وحتى الآثار النادرة التي سرقوها من تلك الشعوب المضطهدة إلا أنهم إلى حد الآن لا يريدون الاعتراف بتلك الجرائم و الحروب ضد الإنسانية، ويرفضون التعويض للضحايا، بل إنهم ما زالوا يتعاملون بسياسة المكيالين مع شعوب الجنوب.

إن هذا الغرب لا يزال متعالياً ويعمل على استدامة حضارة في ظاهرها حضارة رفاه، يلمع منها بريق حقوق الإنسان ولكنها في جوهرها حضارة متوحشة مستكبرة، تحتقر الإنسان وتحتقر المقدسات، وهذا الجوهر لا يخدم التفاعل ولا التواصل، بل إنه يشحن الطرف الآخر ويدفعه إلى الانتقام، وهنا تتولد تلك المآسي التي نراها في شكل عمليات إرهابية يذهب ضحيتها أبرياء من أبناء المجتمعات الغربية، الذين لا دخل لهم في مثل تلك الأعمال الدنيئة المتمثلة في الاعتداء على المقدسات. عملية حرق المصحف الشريف الأخيرة لن تعزز إلا الكراهية، ولن تدفع الناس إلا إلى الذهاب شرقاً حيث حضارات تحترم العقول وتحترم الخصوصيات الثقافية.

ليدرك، الفاعلون في هذه المجتمعات، أنّ السلام والإيمان بقيم التعايش السلمي، هما المستقبل الآمن الذي لا بديل عنه، ولكن هذا المستقبل لن يتحقق إلاّ إذا انتشرت روح الإنسانية والاختلاف في كل المجتمعات المعاصرة، وإذا سحب فتيل الأزمات، وهذه مسؤولية الحكومات والدول، التي عليها أن تقنّن حرية التعبير وتجعلها معبرة فعلاً عن القيم الإنسانية السامية، فحرق المصحف الشريف على سبيل المثال ليس حركة تعبيرية عن رقيّ الإنسان وتحضّره، بل هو عملية مستفزة للمشاعر ودافعة للاحتراب والكراهية، وليس من مبادئ الديمقراطية تحقيق هذه الأهداف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2x7h9m8s

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"