في حدود الديمقراطية

00:20 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

مثل مفاهيم أخرى، تحوّل مفهوم الديمقراطية، وعلى نطاق واسع، إلى أيديولوجيا، متّخذاً طابعاً تبشيرياً، وفي أحوال كثيرة، تأكل صفة الديمقراطية الموصوف، أكان مجتمعاً أم دولة، فتركّز عدسة الأيديولوجي على الديمقراطية، جاعلة منها مقولة مركزية، في الوقت الذي تتنحى فيه مفاهيم أخرى، لا تكون للديمقراطية، مطلق ديمقراطية؛ أي معنى من دونها.

بداية، ينبغي عدم الخلط في التجارب، وعدم نسيان المقياس، فالاختلاف في التجارب التاريخية السياسية هو اختلاف بالنوع أو بالدرجة، وأي مقارنة، لا تأخذ أهميتها إلا إذا كانت على المقياس ذاته، وبناءً عليه، فإن نقد الديمقراطية، والجدل حول حدودها، هو نقد وجدل في التجارب الديمقراطية أولاً، وليس نقداً لتجارب في طريقها إلى الديمقراطية بالدرجة الأولى، لكن هذه الثانية، يمكن لها أن تستفيد من هذا النقد، لأنه يذكّرها بضرورة التركيز على الموصوف أولاً، أي المجتمع والدولة، وعدم الوقوع في المطبّ الأيديولوجي؛ أي تحويل المفاهيم إلى شعارات مقدّسة، على حساب الواقع.

لقد انخرطت حركات السلام العالمي في تنظيرات، شعارها الرئيسي «لا ديمقراطية من دون سلام، ولا سلام من دون ديمقراطية»، وهذا الانخراط له جذور أساسية في حركة التنوير الأوروبي، خصوصاً في الرسالة الشهيرة للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804)، المعنونة ب«السلام الدائم»، والتي يحيل فيها السلام إلى إرادة المواطنين، بوصفهم أحراراً، ومسؤولين عن خياراتهم، لكن ربط الديمقراطية بالسلام أو السلام بالديمقراطية، يبدو في السياق التاريخي الحديث والراهن مجرّد «يوتوبيا»، تدعو إلى ما ينبغي أن يكون من وجهة نظرها، وليس انطلاقاً من الممكنات السياسية، وما تنطوي عليه من خيارات، خصوصاً في مجال العلاقات الدولية، وقبل ذلك، في مصالح الفاعلين الأساسيين في بعض الدول الديمقراطية، المنخرطة في حروب متعددة، بعضها، وربما أكثرها، تحت شعار «حماية الديمقراطية»، كما في حالة الولايات المتحدة.

مفهوم الديمقراطية، إسوة بأي مفهوم آخر، هو حدّ على ما يناقضه، لكن المفهوم ذاته محدود بشروط إنتاج الواقع، كما أنه مشروط داخلياً/ بنيوياً، فقد أصبحت الديمقراطية بمعناها العام الرئيسي مرتبطة بالتمثيل السياسي، وهذا أحد أهم شروط تطابقها البنيوي مع ذاتها، لكن وجود التمثيل السياسي في أي مجتمع لا يعني بالضرورة أن التمثيل السياسي موجود، أو أنه مطابق اجتماعياً، فكما أن أحد أهداف النظام الديمقراطي هو التعددية السياسية، وتداول السلطة، أيضاً، يخضع التمثيل السياسي لعملية صناعة، تقودها القوى الأكثر نفوذاً في المجتمعات الديمقراطية، حتى تكاد تتحوّل الديمقراطية، بهذه النسخة، إلى كونها عمليات إعاقة متتالية ومستمرة، تقوم بها فئات محدودة، لمنع فئات أخرى، وربما الأكثرية، من الترقي في السلم الاقتصادي/ الاجتماعي، ومنعها من امتلاك النفوذ، أي باختصار، منعها من المنافسة الحقيقية.

الفئات الأكثر نفوذاً في المجتمعات الديمقراطية، بما تمتلكه من ثروات وأدوات إنتاج وتسخير للكفاءات، وغيرها من ممكنات، تجعل منها الأكثر قدرة على التنظيم السياسي، الذي يعدّ وسيلة وآلة إنتاج الديمقراطية، وهو ما تفتقده الفئات الاجتماعية، من الطبقات الأضعف.

في حركة الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا، مؤخراً، كان واضحاً أن ما تفتقده الفئات الغاضبة هو التمثيل السياسي، في بلد عريق ديمقراطياً، وعلى الرغم من كون فئة الفرنسيين من أصول مهاجرة، يمتد وجودها الزمني لعقود في البلاد، فإنها بقيت على هامش الممارسة السياسية، ولا تمتلك القدرة على تنظيم نفسها، وطرح مشكلاتها من خلال المؤسسات المنتخبة؛ وذلك بسبب إعاقة النخب الفرنسية لهذا التنظيم، لأنه في حال حدوثه، سيكون مقدمة لإحداث تغييرات لا يستهان بها في خريطة النفوذ والثروة في المجتمع الفرنسي.

إن جزءاً من استراتيجية الفئات المهيمنة في أنظمة الحكم الديمقراطية، تقوم على تصعيد مكانة بعض القضايا، وجعلها في مركز الصراع، من خلال الإعلام، والحملات السياسية، على حساب قضايا جوهرية، من مثل توزيع الثروة، وإدارة المصالح العامة، والمناصب الحكومية، وغيرها من القضايا، التي تمسّ مكانتها.

إن الديمقراطية، في هذا الإطار، حدّها الرئيسي هو موازين القوى الطبقية من جهة، والقدرة على التمثيل السياسي من جهة أخرى، وفي حالة ضعف هذين العاملين، تصبح الديمقراطية، نهجاً براغماتياً لإدامة سيطرة النخب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/zune6ye3

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"