يونس السيد
القمة الروسية - الإفريقية التي انعقدت في سانت بطرسبورغ يومي الخميس والجمعة الماضيين، وهي الثانية من نوعها بعد القمة التي عقدت في سوتشي عام 2019، شكلت منعطفاً هاماً ليس فقط في العلاقات الروسية الإفريقية، وإنما في العلاقات الدولية ككل، في ظل المتغيرات العالمية الذاهبة نحو عالم متعدد الأقطاب .
لكن قبل الحديث عن هذه القمة وطبيعتها وأهدافها، لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء، حيث تعود جذور العلاقة الروسية الإفريقية إلى العهد السوفييتي، الذي لعب دوراً هاماً في مساعدة الكثير من دول القارة السمراء على التحرر من الاستعمار والتبعية، قبل أن ترث روسيا هذه العلاقات وتعمل على تطويرها وترسيخها. منذ ذلك الوقت تحولت القارة السمراء الغنية بثرواتها ومواردها إلى ساحة للتنافس بين القوى الاستعمارية الغربية الساعية لفرض الهيمنة والنفوذ والاستيلاء على ثروات شعوب القارة وإفقارها وإبقائها رهن المساعدات الخارجية، وبين روسيا ثم الصين لاحقاً الساعيتين لإقامة علاقات متوازنة مع تلك الدول تقوم على الاحترام المتبادل وتحقيق المصالح المشتركة. وفي ظل التطورات الجارية في الساحة الدولية وظهور إمكانية حدوث تغييرات في النظام الدولي نحو نظام عالمي جديد يقوم على التعددية القطبية، بدأت القارة الإفريقية تكتسب أهمية استثنائية، بمواكبة حالة من النهوض بحثاً عن مكانها ودورها الذي يليق بحجمها وثقلها في الساحة الدولية في ظل ازدياد حدة الصراع والاستقطاب العالمي.
وسط هذه التعقيدات المتشابكة، يأتي انعقاد قمة سانت بطرسبورغ الروسية الإفريقية، لتعزيز الشراكة الاقتصادية والعسكرية بين الطرفين. ومما لاشك فيه أن روسيا الخاضعة لعقوبات غربية في كل الاتجاهات على خلفية الحرب في أوكرانيا بحاجة لشراكات حقيقية وتوسيع دائرة الأصدقاء والحلفاء على كل المستويات، الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ولديها الأساس القوي مع كثير من الدول الإفريقية، لبناء وتعزيز هذه الشراكات على قاعدة الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. وهي أيضاً قبلت مبادرة الاتحاد الإفريقي لإيجاد تسوية سياسية للحرب الأوكرانية، وتبدي مرونة كبيرة في الذهاب للمفاوضات لإنهاء هذه الأزمة. وبالمقابل تجد كثيراً من دول القارة في تمتين العلاقة مع روسيا التعبير الأمثل لتحقيق طموحاتها في التنمية ودعم سيادتها واستقلالها بعيداً عن أطماع الهيمنة الغربية والبقاء في فلك التبعية. ومن الواضح أن معظم دول القارة بدأت تدرك أن قوتها الحقيقية تكمن في تكتلها لمواجهة التحديات الخارجية، وأنها تتشارك الكثير من القضايا مع روسيا إزاء محاولات الابتزاز والعقوبات الغربية وفرض أنظمة حاكمة في بعض دول القارة، تحت ستار الديمقراطية وحقوق الإنسان، فقط للحفاظ على مصالحها ونهب ثروات شعوبها، فيما تواصل روسيا دعمها العسكري والاقتصادي للدول الصديقة، بلا أهداف استعمارية، وبما يحفظ سيادتها ويحقق المصالح المشتركة للجميع.
من هنا يمكن النظر إلى قمة سانت بطرسبورغ وأهمية الحوار الروسي الإفريقي الباحث عن مواجهة التحديات المشتركة، في إطار شراكة استراتيجية تحقق المصالح المتبادلة وتمكن القارة السمراء من انتزاع حقوقها المغيبة ولعب دورها المؤثر في الساحة الدولية، والإسهام في تشكيل النظام العالمي الجديد.
