النظرية النقدية الحديثة

21:59 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد
في ظل أزمة العجوزات المالية (تخطي النفقات الإيرادات في الموازنات العامة، وتخطي المديونيات الحكومية إجمالي الناتج المحلي بمراحل، أي أن الاقتراض يتجاوز قدرة الدولة على إنتاجها السنوي من السلع والخدمات)، فقد وجدت حكومات الدول المتقدمة التي تقود أعمال «السحب على المكشوف»، في «النظرية النقدية الحديثة» أو نظرية النقود الحديثة (Modern Monetary Theory or Modern Money Theory - MMT)، ضالتها للخروج من إخفاقها في ترشيد وحصافة إدارة ماليتها العامة.

تقول هذه النظرية بأن البنك المركزي يمكنه طباعة ما يشاء من النقود، ويمكن للحكومات أن تنفق بحرية دون مشاكل كي يعمل الاقتصاد بكامل طاقته. وهي تعتبر العملة احتكاراً عاماً للدولة التي تستطيع حكومتها أن تخلق المزيد من الأموال لسداد ديونها بعملتها المحلية، وأن تنفق بحرية على متطلبات إنفاقها الجاري والاستثماري. ذلك أن زيادة الإنفاق الحكومي لن تؤدي، كما تقول النظرية، إلى حدوث تضخم طالما أن هناك طاقات اقتصادية ما زالت غير مستخدمة، ووجود عمالة عاطلة عن العمل. وإن مثل هذا الإنفاق الحكومي يمكن أن يُشَغّل الاقتصاد بكامل طاقته، ويثري القطاع الخاص، ويقضي على البطالة، ويموّل برامج التنمية الرئيسية مثل الرعاية الصحية الشاملة، والتعليم الجامعي المجاني، ومشاريع الطاقة الخضراء. حتى الإنفاق الحكومي الذي يولد عجزاً حكومياً، وجدت له النظرية النقدية الحديثة تأويلاً، وهو أن هذا العجز له مقابل فائض لدى القطاع الخاص.

بل إنها تذهب إلى أن التضخم يحدث فقط حين تُفرض قيودٌ مادية أو طبيعية على الطاقات الإنتاجية للاقتصاد، مثل تلك التي تعيق التوظيف الكامل «Full employment» (حالة اقتصادية تُستخدم فيها جميع قوى العمل المتاحة بأكثر الطرق فعالية. ويضع الاقتصاديون مستويات مختلفة من العمالة الكاملة التي تعني معدلات بطالة منخفضة إنما ليست صفرية)، ما يؤدي إلى فشل العرض في تلبية الطلب، وبالتالي ارتفاع الأسعار. وبحسب أنصار النظرية، فإن بوسع الحكومات نفسها التحكم في التضخم عن طريق إنفاق أقل أو سحب الأموال من الاقتصاد من خلال الضرائب.

إنها نظرية غير تقليدية «Heterodox Macroeconomics theory»، من حيث خروجها على كل سياقات النظرية الاقتصادية التقليدية. أي أنها تتعارض مع المدارس التقليدية، أو «الأرثوذكسية» إن شئتم، للفكر الاقتصادي السائد. وهي في المحصلة عبارة عن مشتقة «Derivative» (بلغة الرياضيات)، من حصيلة «نظرية دولة المال» (State theory of Money) لعام 1905 للاقتصادي الألماني جورج فريدريش كنا؛ و«نظرية الائتمان للمال» للدبلوماسي والاقتصادي البريطاني ألفريد منتشل-إينيس، ونحوها من النظريات التي قاربت علاقة الحكومات بالنقود وإدارتها ضمن سياق الدورة الاقتصادية.

ومع تزايد الضغط على الماليات العامة في الدول المتقدمة، خصوصاً في أعقاب الضربة القاصمة التي تلقتها الاقتصادات الوطنية في كافة بلدان العالم، جراء تفشي وباء كورونا مطلع عام 2020، كثُر المبشرون لهذه النظرية التي صارت تستهوي، إلى جانب رهط من الاقتصاديين والمديرين التنفيذيين في «وول ستريت»، كبار المشرّعين في المجالس النيابية، في أمريكا وأوروبا واليابان.

لكنها، بالمقابل، واجهت انتقادات من عدد من الاقتصاديين المرموقين مثل بول كروغمان المحسوب على الكينزية الجديدة (New Keynesian)، والحائز على نوبل في الاقتصاد، الذي اعتبر أن النظرية النقدية الحديثة تذهب بعيداً في دعمها لسياسة عجز الموازنات الحكومية، وتتجاهل الآثار التضخمية للحفاظ على عجز الميزانية عندما ينمو الاقتصاد. وقد شبّه كروغمان المولَعين بالنظرية، بأولئك المنغمسين في لعبة «كالفين بول» (calvinball)، وهي لعبة هزلية أمريكية يومية يغير اللاعبون بموجبها القواعد حسب أمزجتهم ونزواتهم. وكان قد ابتكرها رسام الكاريكاتير بيل واترسون، وبقيت تتمتع بشعبية واسعة ودائمة وتأثير واهتمام أكاديمي وفلسفي طوال الفترة من 1985 إلى 1995 في الولايات المتحدة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/35kxvcfe

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"