عندما تصبح العدالة فولكلوراً

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

ذكرى الأحداث المؤلمة تعيد إلى الأذهان صوراً يتمنى الناس نسيانها، وتحيي في القلوب وجعاً يبحثون عن دواء له، وتمنح المحتالين فرصة لإعادة استغلالها، بالخداع والتصريحات الجوفاء، أملاً في جني مكاسب جديدة، وهم أنفسهم من صنعوا الحدث وأدموا القلوب وشوّهوا الجمال. وانفجار مرفأ بيروت الذي هز العالم، وكان من أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، من دون أن يهتز رمش لأي من صناعه، تجار السياسة وزعماء الطوائف، مرت ذكراه الثالثة لتجدد الآلام وتعيد صورة مرفأ ينفجر ومدينة تشتعل وهواء يتسمم وسماء تغطى بالدخان متعدد الألوان، ومبانٍ تتهدم وبشر تتطاير أشلاؤهم في الجهات الأربع، ورعب يعمّ المدينة وخوف من المعلوم والمجهول.

اللبنانيون لا ينتظرون موعد الكارثة لاستعادة ذكرياتها المفزعة وكوابيسها المؤلمة، فانفجار المرفأ ليس من الأحداث التي يمكن أن يطويها الزمن، الناس يتذكرونها كل يوم، وذوو الضحايا يعيشون تفاصيلها كل الوقت، ويساعد على عدم نسيانها غياب العدالة والتستر على المجرمين واستهتار الدولة بدماء الضحايا وعدم اكتراثها بما خلفته من خراب ودمار وانهيار يضاف إلى رصيد لبنان المتخم بالانهيارات والخيبات.

من الطبيعي أن يخرج أهالي الضحايا والمصابين في ذكرى الانفجار للصراخ والمطالبة بالقصاص والتنديد بتعطيل التحقيقات بعد مراحل من العرقلة والتشكيك والتسييس، وتنظيم المسيرات وإلقاء الكلمات لتذكير شعب لن ينسى ما ارتكبه الفاسدون في حق بشره وحجره وحاضره وماضيه، ولكن ليس من الطبيعي أن يتبارى المسؤولون في استغلال المناسبة سياسياً، ومحاولة تخدير الناس بكلام ينطق به اللسان ولا يتبناه العقل ولا يؤمن به القلب، متوهمين أن الناس يمكنهم تصديقه.

كل السياسيين اللبنانيين حاولوا استغلال الذكرى بتصريحات تظهرهم مصطفين بجوار الشعب، وليسوا أصحاب قرار في تعطيل التحقيق وتغييب العدالة، وليسوا أصحاب سلطة في التقاعس والصمت المريب أمام رفض المتورطين المثول أمام المحقق العدلي. رئيس الحكومة نجيب ميقاتي قال: «الأمل، كلّ الأمل، أن تظهر شمس العدالة في قضيّة انفجار مرفأ بيروت في أقرب وقت، فترقد أرواح الشّهداء بسلام»، وهذا الكلام لو قاله مواطن عادي لكان مقبولاً، أمّا أن يصرح به رئيس حكومة فهو يكشف عن عجزه أمام مراكز القوى في الدولة، وعدم قدرة حكومته على تحقيق العدالة.. أما رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري فقال: «جرح بيروت لن يندمل، والعدالة آتية مهما طال الزمن»، وهو من أكثر العالمين أن العدالة أصبحت من الفولكلور في لبنان، خرجت ولم تعدْ منذ عقود، اغتيل رؤساء ورؤساء حكومات ونواب وسياسيون وإعلاميون، ولم يعرف أحد من القاتل، ولم يبذل القضاء جهداً يذكره التاريخ لمحاكمة مجرم، ومن بين الشهداء والده الرئيس رفيق الحريري.

وزير الداخلية قال، إن «ما يعرقل استئناف التحقيق هو عدم وجود دولة في لبنان تطبق القانون»، وعندما يأتي هذا الكلام على لسان الوزير المسؤول عن إنفاذ القانون يكون اعترافاً بأن الفراغ لم يطل موقعاً أو مواقع، ولكنه أفرغ دولة من محتواها وحوّلها إلى لا دولة، فالحكومة لا قيمة لها ولا دور مؤثراً تلعبه، والبرلمان أصبحت مهمته التعطيل فقط والقضاء إما مسيس أو تلاحقه تهمة التسييس!.

هذه مجرد نماذج للتصريحات التي أدلى بها الساسة في لبنان، وعلى رأسهم رؤساء الأحزاب وزعماء الطوائف الذين منعوا التحقيق مع متهمين مفترضين من أحزابهم، يتحدثون بلسان الشعب وهم الذين يتاجرون بهمومه ويتسبّبون في قهر ناسه ويحمون القتلة والفاسدين. وخارجياً، لم تسلم ذكرى تفجير المرفأ من الاستغلال السياسي؛ حيث أعربت واشنطن عن رفض تعطيل المساءلة في لبنان، مطالبة ب«إتمام التحقيقات»، وخرج الرئيس الفرنسي ماكرون ليدغدغ مشاعر اللبنانيين بتغريدة باللغة العربية: «لبنان لم يكن وحيداً، وهو ليس وحيداً اليوم أيضاً.. يمكنكم أن تعتمدوا على فرنسا، وعلى تضامننا وصداقتنا»، والحقيقة أن لبنان اليوم وحيد، وتحول إلى دولة يستغلها ساستها والقوى الخارجية على حد سواء.

العدالة لن تتحقق في لبنان بالوعود الكاذبة، ولكن بإرادة شعب تجاوز في حقه كثيراً الفاسدون، ولن يعيد إليه دولته وحقوقه سوى إرادته من دون انتظار للخارج المستغل دائماً لأزمات الشعوب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n8a6wt3

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"